بعد 734 يومًا من حرب الإبادة الصهيونية التي مزقت غزة، تبدو الهدنة الحالية أشبه بنَفَسٍ قصير في بحرٍ من الدمار. فعلى وقع اتفاق هشّ لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، تلتقط المدينة أنفاسها المثقلة برائحة البارود وذكريات آلاف الشهداء.
لكن خلف مشهد الارتياح المؤقت، تلوح في الأفق ملامح جولة جديدة من العدوان، يُحضّر لها قادة اليمين الإسرائيلي الذين لا يطيقون رؤية غزة تنفض غبار الحرب دون إذعانٍ كامل.
إصرار صهيوني على استمرار آلة الدمار
ما إن توقفت أصوات القصف حتى تسابقت التصريحات العدوانية من داخل حكومة الاحتلال لتؤكد أن وقف النار ليس سوى هدنة مؤقتة.
فوزير الدفاع يسرائيل كاتس أعلن صراحة أن "التحدي الأكبر لإسرائيل بعد استعادة المختطفين هو تدمير كل أنفاق حماس"، مؤكّدًا أنه أعطى أوامره للجيش بالاستعداد لتنفيذ هذه المهمة سواء بعملية إسرائيلية مباشرة أو عبر آلية دولية.
أما إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي المتطرف، فهدد بالانسحاب من الحكومة إذا بقيت حماس على قيد الحياة بعد صفقة التبادل، بينما شدد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش على أن الاتفاق "خطأ استراتيجي"، داعيًا إلى "استئناف الحرب حتى القضاء على حماس نهائيًا".
هذه التصريحات لا تعكس خلافًا داخل المؤسسة الحاكمة بقدر ما تكشف عقيدة ثابتة لدى اليمين الإسرائيلي: أن القوة هي اللغة الوحيدة المسموح بها، وأن أي هدنة ليست إلا فرصة لإعادة ترتيب صفوف الجيش قبل جولة جديدة من القتل والتدمير، حتى لو كان الثمن أرواح أسراهم الذين استخدموهم كذريعة للحرب منذ البداية.
حماس.. مقاومة تفاوضية تحفظ الكرامة
على النقيض من هذا الخطاب الدموي، برز أداء حركة حماس والفصائل الفلسطينية كصورة مشرقة للمسؤولية الوطنية والشجاعة السياسية.
فالمقاومة، التي واجهت حربًا غير مسبوقة في ضراوتها، تعاملت مع المفاوضات كجبهة جديدة من الصراع، سلاحها الصبر والوعي بمكائد الاحتلال.
لقد قبلت حماس الدخول في اتفاق وقف النار رغم علمها بما يحمله من "فخاخ سياسية"، لكنها فعلت ذلك تغليبًا للمصلحة الإنسانية العليا لشعب غزة الذي أنهكته الحرب والحصار.
فقد ضمنت الهدنة انسحاب القوات الإسرائيلية من مناطق التوغل، ودخول المساعدات العاجلة، وتأهيل المستشفيات والمخابز، وبدء خطوات إعادة الإعمار.
وخلال مفاوضات معقدة، تصدت المقاومة لمحاولات الاحتلال فرض سيطرة دائمة على 40% من مساحة القطاع أو تقييد المساعدات الدولية.
وبفضل صمودها التفاوضي، فُرضت معادلة جديدة تقول إن من يصمد في الميدان يفرض شروطه على الطاولة. لقد أثبتت حماس أنها ليست حركة تبحث عن مكاسب سياسية، بل قوة تحمي الشعب وتحافظ على كرامته.
اتفاق هشّ... لكنّه انتصار للإرادة
الاتفاق المعروف باسم “اتفاق شرم الشيخ”، الذي رعته مصر وقطر وتركيا بدعم أمريكي، يقضي بالإفراج عن 48 أسيرًا إسرائيليًا مقابل 1950 أسيرًا فلسطينيًا، بينهم أصحاب أحكام عالية ومعتقلون بعد هجوم 7 أكتوبر.
ورغم أن السلطة الفلسطينية سارعت إلى الترحيب بالاتفاق، فإن الفضل الحقيقي في تحقيقه يعود إلى المقاومة المسلحة التي فرضت على الاحتلال منطق التبادل بعد أن فشل في تحقيق أهدافه العسكرية.
لكن المشهد يبقى معلقًا على حافة الانفجار. فبينما تحاول المقاومة تحويل الهدنة إلى وقف دائم لإطلاق النار، يستعد اليمين الإسرائيلي لجولة جديدة من العدوان تحت شعار “نزع سلاح غزة”.
تصريحات كاتس وبن غفير وسموتريتش تكشف أن العقلية الصهيونية لا تعرف سوى الحرب، وأنها غير قادرة على التعايش مع واقع فشلها في كسر المقاومة أو إخضاعها.
المعركة مستمرة... حتى النصر
في الجوهر، ما تحقق ليس نهاية الحرب بل نقطة تحوّل في معركة الإرادات.
فغزة التي صمدت لعامين أمام أعتى آلة عسكرية في الشرق الأوسط، ما زالت واقفة رغم الجراح.
لقد خرجت المقاومة من تحت الركام أكثر رسوخًا في وجدان شعبها، وأثبتت أن الاحتلال يمكن أن يُهزم بالإصرار والإيمان بعدالة القضية.
أما قادة الاحتلال، فقد كشفوا عن وجههم الحقيقي: سياسيون مأزومون لا يعيشون إلا في ظل الحرب، يستمدون شرعيتهم من استمرار الدم الفلسطيني.
ومع كل تهديد جديد يطلقه وزير في حكومة نتنياهو، يتأكد أن العدو لم يتعلم من هزائمه المتكررة، وأن المقاومة وحدها، بصلابتها وثباتها، قادرة على فرض معادلة الردع وحماية ما تبقى من الكرامة العربية.
وبين هدنة هشة وتصريحات متعطشة للدم، تظل غزة عنوانًا للصمود، والمقاومة نبضًا للأمل، في مواجهة احتلال لا يفهم سوى لغة القوة، ولا يملك سوى الهزيمة أمام شعبٍ لا ينكسر.