في أحدث فصول أزمة سد النهضة التي تحولت إلى مأزق وطني مزمن، أطل قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي في افتتاح أسبوع القاهرة الثامن للمياه بخطاب حاد اللهجة، حمل في ظاهره رسائل تهديد وتحذير، لكنه في جوهره عكس حالة ارتباك سياسي وعجز دبلوماسي امتد لأكثر من عقد. فبينما حاول السيسي أن يظهر بمظهر القائد الحازم المدافع عن حقوق مصر المائية، رأى كثير من المراقبين أن خطابه لم يكن سوى محاولة لتجميل فشل مزمن في إدارة أحد أخطر الملفات الاستراتيجية التي تواجه مصر منذ عقود.
 

الاحتفاء بالأضرار باعتبارها "دليل صحة الموقف"
قدّم السيسي تصريف المياه المفاجئ من سد النهضة وارتفاع مناسيب النيل في السودان، وما تبعه من فتح مفيض توشكى لاستيعاب التدفقات الزائدة، كدليل على “صحة الموقف المصري” وتحذيراته السابقة من مخاطر الإجراءات الأحادية الإثيوبية. إلا أن هذا المنطق يثير تساؤلاً بديهياً: كيف يمكن للنظام أن يعتبر الضرر الذي حذّر منه مسبقاً انتصاراً سياسياً؟

إن ما حدث لا يُثبت صحة الموقف المصري بقدر ما يُظهر فشل القاهرة في منعه عبر أدواتها السياسية والدبلوماسية. فبعد أربع عشرة سنة من المفاوضات المرهقة، لم تتمكن مصر من انتزاع اتفاق قانوني ملزم، بل تحولت إلى طرفٍ يكتفي بردّ الفعل على قرارات إثيوبية أحادية تُفرض عليه أمراً واقعاً. وبذلك، يصبح خطاب السيسي محاولة متأخرة لتبرير عجز استراتيجي طال أمده، لا اعترافاً شجاعاً بمسؤولية الدولة عن إخفاقها في حماية أمنها المائي.
 

الاستنجاد بالمجتمع الدولي: عزلة دبلوماسية متجددة
ضمن خطابه، جدّد السيسي دعوته لما سماه “المجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته” في مواجهة “السلوك الإثيوبي غير المنضبط”. لكن هذه الدعوة، التي تكررت مراراً منذ عام 2015، باتت اليوم مجرد صدى في فراغ سياسي. فمجلس الأمن والاتحاد الأفريقي أظهرا بوضوح عدم رغبتهما في التدخل الحاسم، مكتفيين بدعوات عامة للحوار دون إلزام الطرف الإثيوبي بأي التزامات قانونية.

إن هذه المناشدة المتكررة تكشف بوضوح نفاد أوراق القاهرة، بعدما أعلنت وزارة الري أن باب المفاوضات “قد أُغلق تماماً”. وهكذا، لم يعد أمام النظام سوى التلويح بعبارات إنشائية تُخفي وراءها عزلة دبلوماسية متصاعدة وعجزاً عن بناء تحالفات فعّالة قادرة على تغيير موازين القوى في هذا الملف.
 

لغة التهديد: للاستهلاك المحلي فقط
في محاولة لطمأنة الداخل الغاضب، لجأ السيسي إلى نغمة التهديد حين قال إن “مصر لن تقف مكتوفة الأيدي أمام النهج غير المسؤول لإثيوبيا”، مؤكداً أن تمسكه بالدبلوماسية “ليس ضعفاً”. هذه التصريحات تلقفها الإعلام الرسمي كـ"رسائل حاسمة" تعبّر عن "صلابة الموقف المصري"، لكن الواقع يقول شيئاً مختلفاً: إثيوبيا أنهت مراحل ملء وتشغيل السد فعلياً، بينما لم يتجاوز ردّ مصر حدود التصريحات والبيانات.

أما الحديث عن “التدابير” التي قد تتخذها القاهرة، فيبقى غامضاً ومفتوحاً على التأويل. فهل يقصد الرئيس إجراءات قانونية جديدة بعد فشل السابقة؟ أم أنه يلوّح بخيارات أكثر تصعيداً كتدويل الأزمة أو اللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة؟ في الحالتين، يبدو أن التهديد لا يتجاوز حدود الميكروفون، وأن الهدف الحقيقي هو امتصاص غضب الشارع وتلميع صورة القيادة أمام جمهور أنهكته الوعود الفارغة.
 

الفشل يُقدَّم كإنجاز
جوهر الخطاب كان محاولة لإعادة صياغة الفشل في ثوب من “الانتصار الرمزي”. فبدلاً من الاعتراف بأن إثيوبيا فرضت إرادتها بإقامة وتشغيل السد دون اتفاق، يحاول النظام تصوير الموقف وكأنه نصر سياسي يتمثل في “إثبات صحة التحذيرات”. لكن الحقيقة الصادمة أن مصر، التي كانت تطالب باتفاق قانوني ملزم يضمن حصتها المائية التاريخية، أصبحت اليوم تتلقى الأضرار وتتعامل مع نتائجها، بعد أن تحولت من فاعل مؤثر إلى متفرج عاجز.
 

خلاصة المشهد
خطاب السيسي الأخير لا يمكن قراءته إلا كوثيقة جديدة في سجل الإخفاقات المتراكمة. فبينما يُروّج له الإعلام الرسمي باعتباره “رسالة حزم”، يراه المراقبون إقراراً غير مباشر بالهزيمة في معركة تفاوضية امتدت لعشر سنوات وانتهت بتثبيت الأمر الواقع الإثيوبي.
في النهاية، ما قدّمه السيسي في أسبوع القاهرة للمياه ليس رؤية لحل الأزمة، بل عرض دعائي لتبرير الفشل وتبرئة الذات. فبينما تتضخم تداعيات السد على مستقبل الزراعة والمياه في مصر، لا تزال القيادة السياسية تُغلف عجزها بخطابات وطنية جوفاء، تُخفي وراءها مأساة حقيقية عنوانها: ضياع النيل... وضياع القرار.