في مشهد جديد يعكس مدى ضياع الحدود بين السلطات في مصر، جاء قرار تعيين المستشار عصام فريد، رئيس محكمة النقض السابق، رئيسًا لمجلس الشيوخ، خلفًا للمستشار عبد الوهاب عبد الرازق، ليؤكد أن النظام الحالي يواصل دفن الحياة السياسية واستبدالها بالمؤسسات الشكلية الخالية من التعدد والحوار.

 

فكيف لقاضٍ قضى أكثر من أربعة عقود في محراب القضاء، محظور عليه بحكم الدستور أن ينتمي لأي حزب أو يمارس عملاً سياسيًا، أن يصبح فجأة رئيسًا لإحدى المؤسسات السياسية العليا في الدولة؟

 

إنه مشهد عبثي يختصر الحالة المصرية في جملة واحدة: “حمل خارج الرحم” — سلطة تُنجب مؤسسات سياسية بلا جذور، ولا روح، ولا وظيفة حقيقية سوى تزيين واجهة الحكم.

 

قاضٍ على رأس مؤسسة سياسية: تناقض صارخ مع روح الدستور


بحسب نصوص الدستور المصري، يُفترض أن القضاة يمتنعون تمامًا عن ممارسة العمل السياسي أو الحزبي ضمانًا لاستقلالهم وحيادهم. ومع ذلك، يتم اختيار أحد كبار القضاة لرئاسة مجلس الشيوخ، وهو مؤسسة يُفترض أنها تمارس الدور التشريعي والسياسي والاستشاري في القضايا الوطنية.

 

هذا التناقض الفجّ لا يسيء فقط إلى مبدأ الفصل بين السلطات، بل يُفرغ الحياة السياسية من مضمونها، إذ تتحول المناصب المنتخبة أو شبه المنتخبة إلى مواقع للترضية والمكافآت الوظيفية.

 

وبدل أن تكون رئاسة مجلس الشيوخ نتاجًا لتنافس سياسي وبرنامج وطني واضح، أصبحت ترقية بيروقراطية ضمن منظومة مغلقة، حيث تُدار الدولة بعقلية “التدوير الإداري” لا بروح الديمقراطية.

 

مجلس بلا سياسة.. وشعب بلا صوت

 

منذ إعادة إنشاء مجلس الشيوخ عام 2020، لم يقدّم المجلس أي مبادرة تشريعية كبرى أو نقاش جاد حول أزمات المواطن اليومية. جلساته تُبث خالية من الحيوية، وقراراته تمر دون صدى، وكأن المؤسسة وُجدت فقط لتجميل المشهد الديمقراطي أمام الخارج.

 

والآن، مع تولي قاضٍ سابق رئاسته، تتأكد القناعة العامة بأن المجلس أصبح مجرد إدارة استشارية تحت إشراف السلطة التنفيذية، لا هيئة مستقلة تعبّر عن طيف سياسي متنوع.

 

ففي الوقت الذي تغلق فيه الأحزاب أبوابها خوفًا أو عجزًا، وتُقيد فيه حرية التعبير تحت شعار “المصلحة الوطنية”، تتسع دائرة الصمت، ويتحول البرلمان بغرفتيه إلى أداة للتصديق لا للمناقشة.

 

من القضاء إلى الشيوخ: رحلة في الاتجاه الخاطئ

 

تاريخ مصر السياسي لم يعرف مرحلة بهذا القدر من الخلط بين القضاء والسياسة. فالمستشارون الذين يُفترض أن يبتعدوا عن الشأن العام باتوا يُستدعون لشغل مناصب سياسية وإدارية، وكأن النظام فقد الثقة في السياسيين المدنيين أو لم يعد يؤمن بوجودهم.

 

لكن هذا النهج يحمل خطراً مزدوجاً: فهو من جهة يُسيّس القضاء ويُفقده هيبته، ومن جهة أخرى يفرغ السياسة من مضمونها المدني.

 

إن تحويل القضاة إلى أدوات تكميلية للنظام، بدلاً من أن يكونوا حراسًا للعدالة، يعكس موت السياسة وفساد التوازن المؤسسي.

 

حمل خارج الرحم: دولة تُنجب مؤسسات ميتة

 

اختيار قاضٍ لرئاسة مجلس سياسي هو إعلان رسمي لموت السياسة في مصر. فالنظام لم يعد يكتفي بتهميش الأحزاب، بل صار يستبدلها بالكامل بمؤسسات “معقمة” لا تصدر عنها أصوات أو خلافات.

 

بهذا الشكل، تتحول الدولة إلى جسم بلا روح سياسية، لا يعرف النقاش أو المعارضة، ولا يفرز قادة أو أفكارًا جديدة.

 

إنه “حمل خارج الرحم” بالفعل — إنتاج مؤسسات شكلية بلا أساس دستوري حقيقي، تُدار من فوق، وتعيش بلا وظيفة سوى تكريس واقع الصمت والطاعة.

 

السياسة تموت.. والدولة تخسر

 

حين تُدار السياسة بأدوات القضاء، يفقد الاثنان معناهما: القاضي يفقد حياده، والسياسي يفقد شرعيته. والنتيجة دولة بلا سياسة، ومجتمع بلا تمثيل، ومؤسسات بلا مضمون.

 

إن موت السياسة ليس في مصلحة مصر، بل هو تهديد مباشر لاستقرارها على المدى الطويل، لأن الدول لا تُدار بالأحكام وحدها، بل بالتوافق والمشاركة والنقاش والاختلاف.

 

وما تعيين المستشار عصام فريد إلا حلقة جديدة في سلسلة طويلة من تحويل المؤسسات السياسية إلى ديكور للدولة الأمنية — حيث لا صوت يعلو فوق صوت السلطة، ولا مكان للسياسة إلا في الكتب القديمة.