شهدت الانتخابات النيابية الأخيرة في مصر تحوّلًا جذريًا في طريقة تفسير شرط أداء الخدمة العسكرية بالنسبة للمرشحين، إذ توسعت الهيئة الوطنية للانتخابات بشكل غير مسبوق في استبعاد المرشحين الحاصلين على استثناء من التجنيد، مساويةً بينهم وبين المتخلفين أو المتهربين من أداء الخدمة.
هذا التحول لم يستند إلى تعديل تشريعي أو لائحة جديدة، بل جاء عبر تفسير إداري اتخذ لاحقًا شكل مبدأ قضائي بعد تأييده من المحكمة الإدارية العليا.
المفارقة أن هذا التفسير لم يكن معمولًا به في الدورات الانتخابية السابقة، حيث شارك المستثنون أنفسهم في انتخابات أعوام 2012 و2015 و2020 دون عقبات. ما يعني أن ما تغيّر لم يكن النص القانوني، بل الإرادة المؤسسية التي قررت فجأة إعادة قراءة النص بطريقة أكثر تضييقًا.
بحسب محامين وخبراء، يتعارض هذا التوسّع مع فلسفة قانون الخدمة العسكرية نفسه، الذي لا يساوي بين "من تهرّب" و"من تقدّم للخدمة ثم استُثني بقرار سيادي". فالاستثناء يعني أن جهة الاختصاص (القوات المسلحة) رأت المصلحة العامة أو اعتبارات الأمن القومي في عدم تجنيد الشخص، وليس أنه رفض أو تهرّب. ولذلك، اعتبر هؤلاء أن التفسير الجديد يخلق ما يشبه "العزل السياسي المقنّع" لفئات بعينها، دون وجود نص تشريعي صريح.
إشكالية الشرعية: صدور حكم بعد انتهاء الولاية القانونية
تعود جذور هذا التفسير إلى فترة عضوية المستشار أحمد عبود في الهيئة الوطنية للانتخابات بين 2017 و2020، حين طرح رأيًا مفاده أن المستثنى من التجنيد لا يعدّ مستوفيًا لشروط الترشح. حينها لم تتبنّ الهيئة هذا الرأي، لكنه ظلّ مطروحًا داخل النقاشات المغلقة.
غير أن المفاجئ كان في عودة هذا التفسير في تشكيل الهيئة الحالي، ثم انتقاله من مجرد "اتجاه إداري" إلى "مبدأ قضائي" بعد صدور حكم من المحكمة الإدارية العليا بتأييد قرارات الاستبعاد.
المعضلة القانونية الكبرى هنا ليست في مضمون الحكم فقط، بل في الجهة التي أصدرته وزمان إصداره؛ إذ صدر الحكم برئاسة عبود بتاريخ 16 يوليو، بعد 13 يومًا كاملة من بلوغه سن التقاعد في 3 يوليو. القرار الجمهوري بتعيين خلفه، المستشار أسامة شلبي، كان صادرًا قبل ذلك بأيام، ما يعني أن عبود فقد صفته القضائية في هذا التاريخ.
هنا تظهر شبهة البطلان التي أشار إليها قضاة سابقون: إذا كان الرئيس السابق للمجلس لا يملك صفة وظيفية وقت إصدار الحكم، فإن توقيعه على القرار يفقده المشروعية. هذا الخلل —وفق ما يرى المحللون— لا يمسّ الإجراء فقط، بل يمسّ "السوابق القضائية" نفسها، لأن الحكم لم يكن مجرد فصل في طعن عابر، بل أصبح مبدأً مُلزِمًا.
من أثر قانوني فردي إلى سياسة إقصاء ممنهجة
التوسع في التفسير الجديد لم يقتصر على حالات نادرة أو جدلية، بل امتد ليشمل تيارات وأشخاصًا متنوعين سياسيًا:
- مرشحو حزب النور (شكري، رفاعي، خليفة، وغيرهم)
- مرشح التحالف الشعبي الاشتراكي (هيثم الحريري)
- مرشح حزب الدستور (أحمد الشربيني) رغم أنه أدّى الخدمة بالفعل
هذه النقطة الأخيرة تكشف اتساع نطاق التفسير إلى مستوى غير مسبوق: حتى من أنهى خدمته فعليًا تم استبعاده لأنه "على قوة الاحتياط". الاحتياط في القانون يعني الاستدعاء عند الحاجة، أي الاستعداد لخدمة الدولة، لكنه في التفسير الجديد أصبح ذريعة للمنع السياسي.
بهذا الشكل، لم يعد الأمر قاصرًا على من استُثني من التجنيد، بل طال حتى من أدّاه.
تعارض التفسير مع روح النص الدستوري وضمانات الحقوق السياسية
وفق المحامي خالد علي، فإن التفسير الجديد يحوّل "شرط أداء الخدمة العسكرية" من شرط انضباطي إلى أداة تصفية سياسية. فلا وجود لنص يمنع المستثنى أو من أنهى خدمته وهو في الاحتياط من ممارسة حقوقه السياسية. وبالتالي، فإن هذا الاتجاه يفتح الباب لتطبيق انتقائي، يطال بشكل خاص رموز المعارضة أو المرشحين ذوي النفوذ الشعبي غير المرغوب في وجودهم داخل البرلمان.
مع تحوّل الاتجاه الإداري إلى "مبدأ قضائي" صادر عن أعلى جهة قضائية في منازعات الانتخاب، أصبح أمام بقية المحاكم الإدارية قاعدة مُلزِمة تمنعها من مخالفة هذا الرأي ما لم تتدخل دائرة توحيد المبادئ، وهي نادرًا ما تفعل ما لم يظهر تعارض صارخ أو تهديد دستوري واضح. وهنا تكمن خطورة الواقعة؛ فالقرار لم يعد واقعة فردية ضد مرشح واحد، بل صار قاعدة عامة تُستخدم ضد طيف واسع من الراغبين في الترشح، بلا تعديل تشريعي أو رقابة برلمانية أو نقاش مجتمعي مسبق.
وأشار القضاة إلى أن هذا التحوّل لم يكن مجرد تفسير فني، بل انعكاس لاتجاه سياسي يرمي إلى إحكام السيطرة على بنية البرلمان المقبل، وذلك عبر استبعاد كلّ من يُحتمل أن يمثّل كتلة معارضة أو صوتًا ناقدًا داخل المؤسسة التشريعية. وهو ما يعيد للواجهة اتهامات "هندسة المجال السياسي" بدلًا من تنظيمه، وفقًا لـ"مدى مصر".
الأثر الدستوري: هل نحن أمام عزل سياسي غير معلن؟
وفقًا للدستور، لا يجوز حرمان أي مواطن من حقوقه السياسية إلا بحكم قضائي باتّ يصدر في جريمة محددة تستوجب ذلك. لكن ما يجري —وفق رأي المحامين الحقوقيين— هو حرمان واسع لأشخاص لم يرتكبوا أي مخالفة، بل تقدموا لأداء الخدمة العسكرية وقبلوا بالخضوع للقانون، لكن الدولة هي التي قررت استثناءهم لأسبابها السيادية.
إذا كان الاستثناء قرارًا صادراً عن وزير الدفاع —أي عن الدولة نفسها— فكيف يصبح هذا القرار ذريعة لمعاقبة صاحبه سياسيًا؟
هذا المنطق —كما يقول خالد علي— يخلق طبقة كاملة من "المستبعدين أبديًا" من المجال العام لمجرد أن الدولة نفسها هي التي قرّرت عدم تجنيدهم.
الأكثر تعقيدًا هو سيناريو "الاحتياط": فهناك مرشحون أدّوا الخدمة وامتثلوا للقانون، لكن مجرد استمرار قيدهم ضمن الاحتياط يجعلهم من وجهة نظر الهيئة "ناقصي شرط الأهلية السياسية". أي أن أداء الواجب لم يعد طريقًا لضمان الحق السياسي، بل قد يصبح سببًا لسلبه.
البُعد القانوني في بطلان الحكم الصادر برئاسة عبود
قانونيًا، هناك قاعدة جوهرية: "القاضي لا يختص بعد انتهاء صفته القضائية" ، وهو ما يجعل الحكم الصادر في 16 يوليو عرضة للطعن بعدم المشروعية، لأن عبود لم يعد جزءًا من التشكيل القانوني للمحكمة منذ 3 يوليو.
قضاة سابقون أوضحوا أن العُرف القضائي في مصر يسمح أحيانًا لرئيس المحكمة البالغ سن التقاعد بإكمال العام القضائي حتى 30 يونيو. لكن عبود بلغ سن التقاعد في 2 يوليو —أي بعد نهاية العام القضائي— ما ينزع عنه أي ولاية أو امتداد زمني. هذا الخلل الإجرائي، لو طُعن عليه أمام دائرة توحيد المبادئ، قد يؤدي إلى سقوط المبدأ القضائي من جذوره، وبالتالي إعادة فتح الباب قانونيًا أمام المستبعدين.
لكن إلى الآن، لا توجد مؤشرات على تحرك داخل مجلس الدولة لإعادة نظر الأثر العام للحكم، خصوصًا أن صدوره في ظل عملية انتخابية جارية يزيد من حساسية المسألة.
أثر الحكم على المشهد الانتخابي المقبل
المحصلة النهائية هي أن المعايير التي سمحت سابقًا بالترشح لم تعد سارية الآن، رغم عدم تعديل النص القانوني. وهذا يشير إلى أن أدوات “الفلترة الانتخابية” لم تعد قائمة على التزكيات أو شروط الانضباط المالي أو حتى السمعة، بل على تفسير مغلق لقانون الخدمة العسكرية، يتم توظيفه لإعادة رسم الخريطة السياسية قبل التصويت.
المحامي خالد علي أكد أن الملف لن ينتهي عند هذا الحد، وأن الطعون لا تزال تتوالى، خصوصًا بعد إحالة طعن هيثم الحريري إلى الدائرة الأولى بتشكيلها الجديد، وهو ما قد يمثل فرصة لإعادة وزن المعيار، إذا خرجت المحكمة عن إرث عبود واعتمدت قراءة مختلفة للنص تمنح المستثنى نفس مركز من أُعفي.
ونستخلص مما سبق :
- لم يحدث أي تعديل في قانون الخدمة العسكرية، بل التغيير جاء من تفسير موسّع ذي طابع سياسي.
- الهيئة الوطنية للانتخابات نقلت التفسير من مستوى إداري إلى مستوى إلزامي بفضل حكم الإدارية العليا.
- الحكم نفسه يواجه شبهة بطلان لصدوره عن قاضٍ فاقد للصفة.
- التأثير لم يعد فرديًا: أصبح قاعدة تقصي طيفًا من المرشحين، بينهم من أدّوا الخدمة.
- البعد الحقيقي سياسي: إعادة هندسة المشهد النيابي قبل الاقتراع.