في واقعة تكشف عن عمق الأزمة الأمنية وتنامي الجرأة لدى تجار المواد المخدرة، انتشر مقطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي، وثّقه مواطن من منطقة عزبة عثمان في شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية، يُظهر عمليات بيع المخدرات بشكل علني وفي وضح النهار.
الفيديو لم يكن مجرد توثيق لجريمة فردية، بل كان بمثابة صرخة مدوية تعكس حالة من الغضب واليأس لدى الأهالي، وتفتح في الوقت ذاته جدلاً قانونياً معقداً حول مصير من يصور وينشر مثل هذه الجرائم، في ظل تحذيرات النيابة العامة المتكررة.
عزبة عثمان: تجارة للموت في العلن واستغاثات متكررة
لم تكن واقعة الفيديو هي الأولى من نوعها في شبرا الخيمة أو مناطق أخرى، لكنها سلطت الضوء مجدداً على منطقة عزبة عثمان التي تحولت، بحسب شهادات الأهالي المتكررة، إلى بؤرة لتجارة المخدرات. لسنوات، أرسل السكان استغاثات إلى وزارة الداخلية ومديرية أمن القليوبية، يشكون فيها من انتشار تجار المخدرات الذين يمارسون نشاطهم جهاراً نهاراً، مستخدمين الأسلحة البيضاء والكلاب الشرسة لترهيب كل من يحاول التصدي لهم.
الفيديو المتداول، والذي أظهر تاجراً يعرض بضاعته على الملأ، دفع الأجهزة الأمنية إلى التحرك السريع. وبالفعل، أعلنت وزارة الداخلية عن تمكنها من تحديد هوية المتهم الظاهر في الفيديو والقبض عليه، وهو عاطل مسجل خطر في قضايا مماثلة، وضُبط بحوزته كمية من مخدر "البودر" المعدّة للبيع. ورغم أن هذا التحرك الأمني يُحسب لسرعته، إلا أنه يطرح تساؤلاً جوهرياً: هل كانت السلطات ستتحرك بنفس الفاعلية لولا الضجة التي أحدثها الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي؟ هذا النمط من رد الفعل الذي يتبع الفضيحة العامة يعزز لدى المواطنين قناعة بأن كاميرا الهاتف أصبحت أداة الضغط الوحيدة المتاحة لدفع السلطات للقيام بواجبها.
المصوّر في قفص الاتهام: المعضلة القانونية لـ "المواطن الصحفي"
على الرغم من أن تصوير الجريمة قد يبدو عملاً بطولياً يهدف إلى تحقيق الصالح العام، إلا أن القانون المصري يضع من يقوم به في موقف حرج قد ينتهي به خلف القضبان. ففي السنوات الأخيرة، أصدرت النيابة العامة بيانات متتالية تحذر فيها من خطورة نشر وتداول مقاطع الفيديو التي توثق جرائم على منصات التواصل الاجتماعي.
تستند هذه التحذيرات إلى عدة أسباب قانونية ومجتمعية
جريمة انتهاك الخصوصية: ينص القانون المصري على أن تصوير أي شخص دون علمه أو رضاه يعد انتهاكاً لحرمة الحياة الخاصة، وهي جريمة يعاقب عليها القانون حتى لو كان الشخص المصوَّر يرتكب فعلاً إجرامياً. المادة 309 مكرر من قانون العقوبات والمادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات (رقم 175 لسنة 2018) تعاقبان على هذا الفعل بالحبس الذي قد يبدأ من 6 أشهر، وغرامات مالية باهظة قد تصل إلى 100 ألف جنيه.
"التأثير على سير التحقيقات": ترى النيابة العامة أن نشر هذه المقاطع قد يضر بسير التحقيقات، حيث ينبه الجناة ويتيح لهم فرصة الهرب أو إخفاء أدلة الجريمة، كما أنه قد يؤثر على شهادة الشهود.
نشر أخبار كاذبة وتكدير السلم العام: في بعض الحالات، تكون المقاطع المتداولة قديمة وتم اتخاذ إجراء قانوني بشأنها بالفعل، وإعادة نشرها تساهم في نشر حالة من الذعر والترويج لانعدام الأمن، وهو ما تعتبره السلطات جريمة قائمة بذاتها تستوجب العقاب.
في المقابل، تشيد النيابة العامة بـ "إيجابية" المواطنين الذين يبلغون عن الجرائم، لكنها تشدد على ضرورة أن يتم ذلك عبر القنوات الرسمية، مثل أقسام الشرطة أو الخطوط الساخنة، بل وخصصت رقماً عبر تطبيق "واتس آب" لتلقي البلاغات المدعومة بالصور والفيديوهات (01229869384).
هذا التمييز يضع المواطن أمام خيار صعب: إما أن يسلك الطريق الرسمي الذي قد يفتقر للفاعلية السريعة، أو أن يخاطر باللجوء إلى "محكمة السوشيال ميديا" لتحقيق ضغط شعبي، مع احتمالية أن يجد نفسه متهماً بجريمة التشهير وانتهاك الخصوصية.
بين مطرقة الجريمة وسندان القانون
تعكس واقعة عزبة عثمان مفارقة مؤلمة؛ فالمواطن الذي يقرر فضح جريمة تهدد مجتمعه يجد نفسه محاصراً بين خطر المجرمين الذين يواجههم، وخطر القانون الذي قد يعاقبه. إن لجوء الأفراد إلى توثيق الجرائم بأنفسهم هو مؤشر قوي على تآكل الثقة في قدرة الأجهزة الرسمية على توفير الحماية الاستباقية والردع الفعال.
وبدلاً من التركيز على معاقبة "المبلغين"، ينبغي على السلطات معالجة الأسباب الجذرية التي تدفعهم للمخاطرة، وعلى رأسها انتشار الجريمة بشكل سافر والشعور بغياب العدالة الناجزة. فالمعركة الحقيقية ليست ضد كاميرا الهاتف، بل ضد الجريمة التي تدفع المواطن لاستخدامها كآخر سلاح متاح له.

