عمر سمير

كاتب وباحث مصري

 

يروّج التمويل، في مصرنا الحبيبة، حلًّا رئيسًا لمشكلات الاقتصاد، ولتحفيز الاستهلاك في السوق وتعبئة المُدَّخرات لخدمة الشركات في البورصة، وسدّ عجز الموازنة، والجديد أنه يطرح في نطاق واسع حلًّا لمشكلات الفقر، حتى أصبح القطاعان، المالي والبنكي، الأكثر ربحية في الاقتصاد على حساب بقية القطاعات، وبفارق هائل. كما صار النشاط التمويلي يحتلّ حيّزًا أكبر في عمليات صنع القرار، حتى أصبحنا أمام ظاهرة طغيان النشاط التمويلي في الاقتصاد، وهو ما يعرف بالأَمْوَلة، وهي ترجمة لنضوب النشاط الإنتاجي وتركّز رأس المال في القطاع المالي، ما يُحدث اختلالات في مفهوم الاستثمار من الإنتاجي إلى المالي.

 

لم تغرق الدولة المصرية، في الأعوام الماضية، وحدها في الديون، بل أغرقت السياسات ملايين المصريين في قروض من بنوك ومؤسّسات وشركات إقراض متوحّشة، ومتعطّشة لحيازة المال السريع ومضاعفته، تحت بنودٍ عدّة، منها دعم المشروعات الصغيرة والمتوسّطة، أو حتى محاولة دمج القطاعات غير الرسمية التي تشكّل جزءًا مهمًا من الاقتصاد في أدوات التمويل الرسمية، وفي الاقتصاد.

 

صحيح أنه كانت هناك مطالبات عدة بالرقمنة والأتمتة والتحوّل الرقمي والشمول المالي بمعنى ما، لكن ما جرى، في كثير من تفاصيله، بعيد عن ذلك تمامًا للأسف الشديد. فخلال العقد الماضي، وفي النصف الثاني منه تحديدًا، إذ فتح أعين كثيرين من غير القادرين على الفرص المتاحة للاستدانة والاقتراض، فتوسّعت شركات الإقراضين، الصغير والمتوسّط، وظهرت عشرات منها، وبدأنا نشهد توسّع ظاهرة الغارمين والغارمات بمبالغ كبيرة تفوق قدرات المجتمع المدني ومجتمع الأعمال الخيرية على الوفاء بها.

 

تملأ هذه الشركات التي ترفع شعاراتٍ برّاقة شوارع المحافظات والمدن المصرية بوعود بالإقراض حتى 15 مليون جنيه، أي قرابة 300 ألف دولار، بأقلّ الضمانات وأكبر التسهيلات. عندما تراجع ما تفعله هذه الشركات ستصدم حقًّا من أعداد (ونسب) العملاء المتعثّرين، الذين قد يبلغون أكثر من ثلاثة أرباع العملاء، وربّما أكثر من ذلك في بعض الشركات المُقرِضة. وقد تفاجأ بأن قريبًا أو صديقًا وقع ضحية لهذه الشركات، وإغراءات مندوبيها الذين يملأون القرى والمدن المصرية من شرقها إلى غربها، أو حتى استطاعت النصب عليه بإيهامه بأن لديهم مشروعًا، فاقترض مبلغًا كبيرًا من المال، ليجد نفسه وحيدًا في مواجهة فريق قانوني، وبلطجية بياقات بيضاء، أو حتى من دونها، يفعلون ما يحلو لهم لتحصيل القروض المتعثّرة.

 

عندما تبحث خلف هذه الشركات، تجد العديد منها يمارس أنشطة بنكية ومصرفية من دون إجراءات بنكية حقيقية. وحتى إذا تمت بالتنسيق مع البنوك، فإنها لا تتوافق كثيرًا مع القوانين والإجراءات الصحيحة، ناهيك عن مدى توافقها مع قيم العدالة والنفاذ للإقراض من دون الوقوع في فخّ الديون، والبقاء في سدادها مدى الحياة، من دون مشروعات حقيقية.

 

توسّعت البنوك وشركات التمويل الصغيرة والمتوسّطة بصورة كبيرة في أنشطة الإقراض الشخصي، ومن دون تدقيق في الضمانات، ولا في أدوات التحقّق من الأنشطة ودراسات الجدوى التي يفترض أن يقدّمها الأشخاص، وكأنّ المقصود إغراق هؤلاء بالمال من دون أن يعرفوا ماذا يفعلون به، في مقامرةٍ واضحةٍ بمستقبل الاقتصاد والتمويل في البلاد.

 

عندما يتعثّر هؤلاء العملاء، تحرّك هذه الشركات جيوشًا من المحامين الذين يعملون بمقابل زهيد، لكن مكافآتهم تكون أكبر عند ملاحقة عميل متخلّف عن السداد وإجباره على السداد بأيّ طرق. ومن هنا تلجأ الفرق القانونية إلى أدوات غير قانونية أحيانًا، سواء كانت حلولًا عرفيةً أو حتى استخدام البلطجة من أجل التحصيل.

 

وعندما تتساءل عمّ جرى للعميل الذي يفترض نظريًا أنه حصل على دعم لمشروعه الخاص، تكتشف أنه لم يتعثّر فقط، وحوّل قرضًا استثماريًا إلى قرض استهلاكي، وإنما باع منزله أو مزرعته أو استدان من شركة أخرى أو من أقربائه ليسدّد هذا القرض الشخصي المُيسَّر نظريًا. فالنظام المصرفي - المالي لا يتسامح أبدًا مع صغار المتعثّرين، ولا توجد لديه آليات جدولةٍ أو إعادة جدولةٍ حقيقية.

 

ينشأ من هذا سوق موازٍ للإقراض والأَمْوَلة، يتعلّق بمن يحصلون على بطاقات شركات معيّنة، ويسحبون الأموال نقدًا بدلًا من أن تذهب لشراء سلع ومستلزمات إنتاج وينفقونها في غير موضعها، أو يبيعون قروضهم للآخرين بطرق ملتوية كثرت في الآونة الماضية في ضوء السعار الذي أصاب الناس للتحوّل من نمط الإنتاج الاعتيادي إلى نمط البحث عن ثراء سريع.

 

عندما نعلم أن القطاع المصرفي - المالي وحده هو من حقّق عوائد تصل إلى أكثر من 400% خلال السنوات القليلة الماضية، وهو وحده من يحقّق نموًا لأصوله بمعدّل سنوي يقترب من 50%، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرةً: ما الذي قد يدفع الناس للاستثمار في أيّ نشاط حقيقي، زراعيٍّ أو صناعيٍّ، لن يحقّق أبدًا ربع معدلات النمو؟ وهل كان نمو هذا القطاع المصرفي على حساب الأنشطة الأخرى؟ بل يصبح من الضروري التساؤل: كيف ساهم هذا النمط من الأَمْوَلة في مضاعفة التضخّم في القطاع العقاري، وفي غيره من القطاعات؟

 

علينا أيضًا طرح تساؤلاتٍ عدّةً حول أصحاب المصلحة في إغراق المصريين بالديون تحت بند التسهيلات المالية؟ ولماذا لا تتابع شركات وجهات دعم المشاريع الصغيرة والمتوسّطة حالات التعثّر بقصد إصلاح الخلل وتحقيق نجاحات، بدلًا من الهدف الرئيس: تحصيل أموالها فقط، ومن أيّ مصدر، وليس من أرباح ما يفترض أنها مشروعات جديدة وقيمة مضافة للاقتصاد الوطني؟

 

يبدو أن إغراق المواطنين العاديين في الديون ليس عبثيًا، ولا عشوائيًا، وإنما يحقّق أهدافًا عدّة، منها (بطبيعة الحال) ما هو بريء مثل الدمج في الاقتصاد الرسمي، ومن ثمّ زيادة الحصيلة الضريبية للدولة. ومنها ما هو غير بريء تمامًا، يتضمّن ربطًا لرقاب هؤلاء بذلك النظام المصرفي ومن يُسيِّرونه، وبالتالي خلق حاجة ما للاستقرار المالي الوهمي، لكن هذا قد ينقلب على الجميع بحالة أشبه بالحالة اللبنانية، إذ يتعثّر الجميع، ومعهم النظام المصرفي نفسه، ولا يستطيعون الوفاء بالتزاماتهم، ما يحوّل الأمر قنبلةً موقوتةً.

 

في التحليل الأخير، مصر والمصريون بحاجة إلى تيسيرات تمويلية حقيقية لصغار المنتجين، لكنّها يجب أن تكون منضبطة، وألا تتخطّى قواعد العقل والمنطق، وألا تحفّزهم على التجارة في الديون والأقساط، ولا على ترحيل التزاماتهم والمقامرة بحاضرهم ومستقبلهم في نظام مالي أصبح التعثّر فيه نقطةً سوداءَ، وفي مجتمع يقبل التعثّر من الكبار، ولا يقبله من الصغار أبدًا، الذين يتعثّرون ويتعثّر معهم مستقبل عائلاتهم وأقربائهم، ولا يحقّقون ثراءً سريعًا، بل فقرًا مدقعًا.