بينما يترقب العالم تنفيذ ما يسمى بـ"خطة السلام والازدهار" التي تبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتسوية الأوضاع في غزة، تدور على الأرض وقائع ميدانية مختلفة تمامًا. فالجيش الإسرائيلي لا يزال ينسف المنازل والمباني والبنية التحتية في "غزة الشرقية"، أي النصف الشرقي من القطاع الذي تخضع أجزاء واسعة منه حاليًا لسيطرة تل أبيب بموجب الخط الأصفر الجديد، ما يطرح سؤالًا جوهريًا: هل يجري تنفيذ مشروع ترامب لتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأين سيذهب السكان؟
الخط الأصفر: حدود مؤقتة أم تقسيم دائم؟
تحولت حياة هنادي، وهي فلسطينية عادت إلى منزلها بعد نزوح قسري، إلى كابوس يومي بسبب الانفجارات المتواصلة خلف ما يُعرف بـ"الخط الأصفر"، وهو الحد الفاصل الجديد الذي يفصل بين غزة الشرقية الواقعة تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، وغزة الغربية حيث تدير حركة حماس المناطق السكنية.
تقول هنادي: "كل يوم أسمع أصوات انفجارات عنيفة، وعندما أطل من نافذتي أرى الجرافات والمدرعات تنسف ما تبقى من منازل في الحي الذي نشأت فيه".
وبينما يفترض أن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار قد دخلت حيز التنفيذ، إلا أن عمليات التدمير في شرق غزة مستمرة، ما يعكس نية إسرائيل فرض أمر واقع ميداني جديد يتجاوز بنود الاتفاق.
مشروع ترمب يتحرك: تدمير ممنهج تمهيدًا للبناء
وفق مصادر سياسية وميدانية، فإن إسرائيل دمرت أكثر من 1500 مبنى في غزة الشرقية منذ دخول الهدنة حيّز التنفيذ، بحسب صور أقمار صناعية تابعة للأمم المتحدة.
اللافت أن المنطقة التي يجري تدميرها لا تشهد أي اشتباكات حاليًا، ما يُضعف مزاعم الجيش الإسرائيلي بأن عمليات الهدم لأسباب أمنية. وقالت المتحدثة باسم الجيش، إيلا واوية، إن "النسف جزء من إزالة المباني القريبة من الحدود"، لكن التوسع الكبير في عمليات التدمير يكشف عن هدف أوسع: تجريف غزة الشرقية بالكامل لتحويلها إلى منصة لمشروع "ريفييرا ترامب".
بداية من رفح: مدينة جديدة لفصل الفلسطينيين عن أرضهم
تكشف تقارير إعلامية عبرية، منها هآرتس، أن الولايات المتحدة طلبت رسميًا من إسرائيل السماح ببدء بناء مدينة جديدة في شرق رفح، لتكون المرحلة الأولى من ما يُعرف بـ"ريفييرا الشرق الأوسط". وهي المدينة التي تحدث عنها ترامب سابقًا على أنها نموذج لإعادة بناء غزة بطريقة "ذكية ومستدامة".
لكن بحسب التصريحات الصادرة من نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، فإن الهدف هو "بناء" غزة، وليس "إعادة إعمارها"، وهو تلاعب لغوي خطير يعني أن الأراضي المدمرة لن تُعاد إلى أصحابها، بل ستُبنى فوقها مناطق جديدة تحرسها قوات دولية وإسرائيلية، ولا يدخلها إلا من "يُصرّح له".
تجريف سياسي وديمغرافي: غزة تُفصل عن نفسها
يعتقد مراقبون فلسطينيون أن ما يحدث حاليًا ليس فقط تدميرًا للمباني، بل هدمًا للوجود الفلسطيني في شرق غزة بالكامل. إذ من المتوقع، بحسب خطة ترامب، أن تتحول غزة إلى منطقتين:
"غزة الشرقية": منطقة خضراء تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي وقوات دولية، وتُبنى فيها المدينة الجديدة.
"غزة الغربية": منطقة حمراء خاضعة لإدارة حماس، تُترك في حالة دمار وتعقيد سياسي وأمني دائم.
وتقول الباحثة السياسية هيام حجاج: "ما نشهده هو مرحلة تنفيذ مشروع ريفييرا الشرق الأوسط، حيث يتم تجهيز الأرض من خلال النسف الكامل للبيوت والبنية التحتية، وتحويل المناطق إلى فراغ عمراني، بهدف إعادة تشكيلها بما يخدم الرؤية الأميركية-الإسرائيلية".
خطورة الواقع الجديد: اللاعودة وطمس الحق
النسف المستمر في شرق غزة يعني أن عودة السكان باتت شبه مستحيلة، إذ إن منازلهم إما دُمرت بالكامل أو باتت ضمن منطقة أمنية إسرائيلية لا يُسمح بدخولها. ومع تعثّر المفاوضات السياسية، تتحول كل يوم حقائق الأرض إلى أمر واقع لا يمكن تغييره.
ويحذر الباحث مهند الحلو من أن "النسف ليس عملية عسكرية، بل إجراء سياسي يهدف إلى تغيير ملكية الأراضي ومنع الفلسطينيين من العودة، وهو خرق صريح لاتفاق وقف إطلاق النار وتهديد لحق العودة وحقوق السكان القانونية".
غزة تُقسَّم.. والمشروع يُنفّذ بالصمت الدولي
في ظل استمرار التدمير الممنهج في غزة الشرقية، وسكوت المجتمع الدولي، يبدو أن خطة "ريفييرا ترامب" خرجت من الورق إلى التنفيذ العملي. وبينما تصرّ إسرائيل على "تأمين" الحدود، فإن الحقيقة هي أنها ترسم حدودًا جديدة، وتمحو أحياءً كاملة، وتبني فوق الركام مدينة تفصل الفلسطيني عن أرضه إلى الأبد.
في النهاية، لا يبدو أن السلام هو الهدف، بل إعادة تعريف غزة جغرافيًا وديمغرافيًا، بما يخدم الاحتلال فقط.

