في مشهد صادم يرقى إلى مرتبة "الكارثة القومية"، لفظ نهر العاصي، الشريان الحيوي الذي حفر مجراه في قلب تاريخ سوريا، أنفاسه الأخيرة، ليعلن جفافه الكامل للمرة الأولى في تاريخه المسجل.
ما وثقته مقاطع الفيديو التي انتشرت كالنار في الهشيم هذا الأسبوع ليس مجرد "انحسار للمياه"، بل هو "شهادة وفاة" رسمية لواحدة من أغنى المناطق الزراعية في الشرق الأوسط، وإعلان صريح بأن سوريا الأسد باتت أرضًا محروقة، يلتهمها العطش والجوع والفقر، بينما النظام مشغول بتثبيت دعائم حكمه على أنقاض وطن يحتضر.
سهل الغاب.. من "سلة الغذاء" إلى "صحراء الموت"
قبل أن تجف آخر قطرة في العاصي، كانت مؤشرات الكارثة واضحة للعيان. فمنذ شهور، كانت وكالة "سانا" الرسمية نفسها - في غفلة من رقابتها - تحذر من أن جفاف روافد النهر ينذر بأزمة بيئية في سهل الغاب، الذي كان يومًا "سلة غذاء" سوريا. واليوم، تحولت هذه الأراضي الخصبة إلى "صحراء متشققة" وبرك آسنة.
لم يعد الأمر مجرد "نقص في المياه"، بل هو "موت لنمط حياة كامل"، كما لخصها أحد الصيادين بمرارة لوسائل إعلام رسمية. فجفاف النهر يعني انهيار الزراعة، موت الثروة السمكية، تدمير البيئة، وتشريد آلاف الأسر التي كانت تعيش على خيرات هذا الشريان المائي. إنه تجريف كامل للوجود الإنساني والبيئي في منطقة كانت يومًا مرادفًا للحياة والخصب.
https://x.com/backstage_24/status/1991885529093157138
ريّ "بمياه المجاري".. وصمة عار في جبين النظام
في ظل غياب تام لأي خطط حكومية بديلة، وفي مشهد يعكس حجم اليأس الذي وصل إليه الفلاح السوري، اضطر المزارعون في ريف حماة إلى اللجوء لري محاصيلهم "بمياه الصرف الصحي". هذه الكارثة الصحية والبيئية ليست مجرد نتيجة للجفاف، بل هي دليل إدانة مباشر لنظام أهمل على مدى عقود تطوير تقنيات الري، وتحديث شبكات المياه، ودعم المزارعين، وتركهم فريسة للعطش والتلوث.
إن النظام الذي يملك المليارات لتمويل آلته العسكرية وبراميله المتفجرة، "يتقشف" عندما يتعلق الأمر بحياة الفلاح وأمنه الغذائي. سماحه بري الأراضي الزراعية بمياه المجاري هو جريمة بحق صحة السوريين، ووصمة عار ستلاحق هذا النظام الذي حوّل أرض الياسمين إلى أرض للأوبئة والأمراض.
الجفاف.. بين "تغير المناخ" و"صناعة الإهمال"
تتحجج السلطات السورية بتغير المناخ وتراجع هطول الأمطار لتبرير هذه الكارثة، وهو جزء من الحقيقة، لكنه ليس كلها. فالتقرير الأمريكي الذي حذر من أن شرق المتوسط يواجه أسوأ موجة جفاف منذ عقود، أشار إلى أن "سوريا هي أكثر البلاد المتضررة". والسؤال هنا: لماذا سوريا؟
الجواب يكمن في عقود من سوء الإدارة، والفساد، وإهمال البنى التحتية المائية. السدود التي بناها النظام (كسد الرستن الذي وصل إلى حدوده الدنيا) تحولت إلى مجرد "أحواض طينية" بسبب غياب الصيانة، بينما استمرت سياسة هدر المياه في الزراعات المستهلكة دون أي خطط ترشيد. الجفاف ليس مجرد "ظاهرة طبيعية"، بل هو نتيجة حتمية لـ"فشل سياسي" لنظام حوّل كل موارد الدولة لخدمة بقائه، وتجاهل كل ما يمس حياة المواطن.
الخلاصة: نهر يموت.. ووطن يُحتضر
جفاف نهر العاصي، الذي يخالف في جريانه كل أنهار المنطقة، يبدو وكأنه في موته هذا يصرخ بحقيقة سوريا اليوم: وطن يسير عكس تيار الحياة. موت النهر ليس مجرد خبر عابر، بل هو رمز لسياسات نظام "أرض محروقة" لا يترك خلفه سوى الخراب. فبعد أن قتل البشر وهجرهم، ها هو الآن يقتل الأنهار ويجفف الأرض. إن مشهد قاع العاصي الجاف والمتشقق هو أصدق تعبير عن سوريا تحت حكم الأسد: أرض بلا ماء، وشعب بلا أمل، وتاريخ عريق يلتهمه الجفاف والنسيان.

