حلمي الأسمر
كاتب وصحافي أردني
من يقرأ التقرير الصادر أخيرًا عن معهد دراسة معاداة السامية والسياسات العالمية في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، يُدرك أنّ ما بين السطور أخطر بكثير مما يبدو على السطح. فهذا المعهد، المعروف بانحيازه المطلق للرواية الصهيونية وتمويله القادم من شبكات ضغط يهودية – أميركية متشددة، لا يكتب أبحاثًا بريئة، ولا يُصدر تقاريره عبثًا. إنّه جزء من ماكينة سياسية متكاملة تعمل على إنتاج سردية تخدم المصالح الإسرائيلية داخل الولايات المتحدة، وتعيد تشكيل وعي صُنّاع القرار في واشنطن بما ينسجم مع أولويات تل أبيب.
يعمل هذا المعهد منذ سنوات على بناء رواية ضخمة تعتبر أن جماعة الإخوان المسلمين، وقطر، والجامعات الأميركية، وكل ما له صلة بالعالم العربي أو الإسلامي، يشكل تهديدًا ثقافيًّا وفكريًّا وأمنيًّا للنفوذ الإسرائيلي. لكن المعهد، للمرّة الأولى، يذهب إلى خطوة نوعية: إنه يضع الأساس الفكري والسياسي للقرار التاريخي الذي أصدره الرئيس دونالد ترامب قبل أيام، ويفتح الباب رسميًّا لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين تنظيمًا إرهابيًّا.
يتّهم التقرير الجماعة بأنها تتسلّل "استراتيجيًا" إلى المجتمعات الغربية، ويستند إلى أرقام ضخمة عن تمويل قطري مزعوم للجامعات الأميركية، ويعيد تدوير المزاعم التي يروّجها المعهد منذ عام 2019 عن "اختراق عربي – إسلامي" للمؤسّسات التعليمية. هو ليس بحثًا أكاديميًّا، بل ذخيرة سياسية جاهزة، مصمّمة بعناية كي يستخدمها الكونغرس والبيت الأبيض واللوبي الصهيوني في لحظة سياسية متوتّرة، حيث تُستخدم الجامعات، و"السوشيال ميديا"، والطلاب، والرأي العام، ساحات معركة لتجريم أي تعاطف مع فلسطين.
أخطر ما في المشهد أنّ هذا التقرير جاء قبل صدور القرار الرئاسي بساعات قليلة، وكأنه يمهّد الأرضية ويقدّم التبرير النظري المطلوب. وعندما نقرأ نص قرار البيت الأبيض، نجده ينسجم حرفيًّا مع الرواية التي صاغها المعهد: فالأمر التنفيذي يقدّم الجماعة باعتبارها "تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأميركي"، ويتهم فروعها في مصر والأردن ولبنان بدعم العنف في المنطقة، ويمنح وزارتي الخارجية والخزانة مهلة قصيرة لاتخاذ الخطوات اللازمة لتصنيف هذه الفروع تنظيمات إرهابية دولية.
ليس هذا القرار إجراءً إداريًّا؛ إنه إعلان سياسي يرسم مستقبل الشرق الأوسط للسنوات المقبلة. تقول واشنطن بوضوح: لا وساطات عربية مستقلة، لا أدوار خارج الإطار الأميركي – الإسرائيلي، لا قوة سياسية أو إعلامية أو فكرية تستطيع منافسة الرواية الصهيونية داخل الولايات المتحدة.
وإذا كانت قطر قد لعبت خلال حرب غزة دورًا محوريًّا في التهدئة والتفاوض، فإنّ المعهد يسعى إلى خنق هذا الدور عبر ربط الدوحة بالإخوان المسلمين وربطهم بالعنف، وبالتالي، إيجاد مناخ يمهّد لإضعاف الوساطة القطرية وضرب مكانة الدوحة الإقليمية، فالتقرير لا يريد فقط شيطنة الجماعة؛ إنه يريد شل أي دولة عربية تُظهر استقلالًا عن الإرادة الأميركية – الإسرائيلية.
ليس الربط بين الإخوان وقطر والجامعات والطلاب تحليلًا علميًّا، بل جزء من مشروع متكامل عنوانه: تجريم أي خطاب لا يتماشى مع الرواية الإسرائيلية. وكل مؤسّسة تعليمية لا تتبنى الرواية الرسمية تُتَّهم بأنها "منصّة اختراق"، وكل حركة سياسية لا تعادي غزّة تُوصم بأنها "تهديد"، وكل نقد للاحتلال يُعاد تعريفه "تحريضًا". ولهذا، ليس تقرير المعهد مجرد وثيقة؛ إنه إعلان عن مرحلة جديدة من الحرب على الوعي، تريد فيها إسرائيل وشبكات الضغط التابعة لها أن تتحكّم في تعريف المصطلحات: من هو المعتدل؟ من هو المتطرّف؟ من هو الحليف؟ من هو الإرهابي؟ ومن يحقّ له أن يبقى في الحياة العامة داخل أميركا؟
ومع صدور قرار ترامب، تدخل المنطقة نفقًا سياسيًّا جديدًا. القرار سيُستخدم ضد الإخوان اليوم، وضد قطر غدًا، وضد كل صوت يدافع عن غزّة بعد غد. إنه لا يستهدف جماعة واحدة، بل بيئة كاملة من الأفكار، والدول، والحركات، والوساطات، وكل ما لا يدخل في منظومة الطاعة المطلقة لواشنطن وتل أبيب.
ليست قراءة هذه التطورات ترفًا فكريًّا، بل ضرورة سياسية لفهم المستقبل، فمن يربح معركة السردية اليوم يربح معركة السياسة غدًا. وما يجري حاليًا محاولة لإعادة صياغة العالم العربي من بوابة واشنطن، وتجريم أي قوة مستقلة في الإقليم، وتحويل الصراع من سياسي إلى وجودي: إما أن تكون جزءًا من المشروع الأميركي – الإسرائيلي أو أن تُوضع على قوائم "التهديد".
إنه زمن إعادة تعريف الشرق الأوسط… وللأسف، الرواية التي تنتصر اليوم قد تتحوّل إلى سياسة تحكُم المنطقة عقودًا.

