في تشخيص دقيق لعمق الأزمة التي تعصف بالمجتمع المصري، لم يكتفِ الدكتور مراد علي، السياسي والمفكر المصري، بالوقوف عند حدود النقد الفني العابر لتصريحات الممثل أحمد السقا الأخيرة، بل اتخذ منها منطلقًا لتفكيك ظاهرة أخطر تضرب بجذورها في بنية الدولة والمجتمع تحت حكم النظام الحالي. الظاهرة التي وصفها بـ"اختلال معايير الوعي"، حيث يتصدر المشهد شخصيات محدودة العمق، بينما تتوارى الكفاءات الحقيقية خلف ستار من التهميش المتعمد.

 

تصريحات "السقا" التي وجهها لنادي ليفربول الإنجليزي بخصوص اللاعب محمد صلاح، معرّفًا نفسه بـ"أحد نجوم الشرق الأوسط"، لم تكن مجرد زلة لسان، بل اعتبرها "علي" عرضًا لمرض "التضخم الذاتي" الذي لم يعد قاصرًا على ممثلين يبحثون عن دور، بل انتقل كالعدوى إلى كبار المسؤولين في الدولة، ليصبح "الجهل النشط" هو العملة السائدة في "جمهورية الضباط".

 

"أنا النجم".. وهم التأثير والسطحية المقدسة

 

تحت هذا العنوان، فكك الدكتور مراد علي البنية النفسية التي تحكم تصرفات من يُطلق عليهم زورًا "النخبة" في مصر اليوم. فالمشكلة، كما يراها، لا تكمن فقط في سذاجة الطرح الذي قدمه أحمد السقا، وافتراضه العبثي أن مؤسسة عالمية عريقة بحجم "ليفربول" تبني قراراتها الاستراتيجية والاستثمارية بناءً على مناشدة عاطفية في فيديو، بل الكارثة تكمن في "الأنا" المتضخمة التي جعلته يصدق أنه يملك هذا التأثير.

 

هذا الانفصال عن الواقع يعكس حالة من "الفراغ الثقافي" الذي رعته دولة الانقلاب، حيث تم تجريف المجال العام من المفكرين والعلماء الحقيقيين، واستبدالهم بـ"أراجوزات" وشخصيات كرتونية تُقدم للجماهير على أنهم قادة الرأي وصناع الوعي. إن تصدير هذه النماذج السطحية ليس عشوائيًا، بل هو عملية ممنهجة لخفض سقف طموح المواطن، وإغراقه في التفاهة حتى لا يلتفت إلى الكوارث الحقيقية التي تحيط به.
 

 

من "السقا" إلى "القصور الرئاسية".. متلازمة "العبقرية الوهمية"

 

في انتقالة حادة وذكية، ربط الدكتور مراد علي بين سلوك الممثل وسلوك "كبار المسؤولين"، في إشارة واضحة لرأس النظام ومعاونيه. فإذا كان الممثل يعتقد أن ليفربول ينتظر إشارته، فإن الكارثة الأكبر هي وجود مسؤولين يعتقدون أنهم "أطباء الفلاسفة" وأنهم يملكون حلولًا "لو طبقت لغيرت وجه العالم"، بينما هم في الحقيقة يقودون البلاد من فشل إلى فشل.

 

يؤكد "علي" أن الاعتقاد في "العبقرية الذاتية" لدى الحكام هو أخطر أنواع الفساد السياسي. فهذا الوهم يمنعهم من الاستماع لأهل الخبرة، ويدفعهم لاتخاذ قرارات انفرادية مدمرة – سواء في الاقتصاد أو السياسة أو حتى في إدارة ملفات الأمن القومي – بناءً على "فهمهم الخاطئ" وقدراتهم المحدودة التي يظنونها خارقة. هذه الحالة من "النرجسية السياسية" هي السبب المباشر وراء انحدار المجتمع الذي وصفه الدكتور مراد بأنه "متوقع لا مفاجئ".

 

تغييب الوعي وصناعة الفشل

 

يشير التقرير، استنادًا لرؤية الدكتور مراد، إلى أن الدولة الحالية تعيش حالة خصومة مع "الوعي". فالمسؤول الذي يرى نفسه فوق النقد وفوق المحاسبة، والذي يعتبر نفسه "هبة الله للمصريين"، لا ينتج إلا مؤسسات هشة وقرارات عشوائية.

 

حين تختل المعايير، ويصبح "التطبيل" هو معيار الكفاءة، و"السطحية" هي جواز المرور للشهرة، تكون النتيجة الحتمية هي انهيار منظومة القيم، وتحول المجتمع إلى مسرح عبثي كبير، يدفع فيه المواطن البسيط ثمن تذاكر مشاهدة هذه المسرحية الهزلية من دمه وقوت يومه.

 

يختتم الدكتور مراد علي تغريدته بصرخة "لك الله يا مصر"، وهي جملة تلخص حجم المأساة. فمصر التي كانت تصدر الثقافة والعلم للمنطقة، باتت اليوم رهينة لنخبة تعيش في فقاعة من الأوهام، ونظام سياسي يرى في "الجهل" وسيلة للسيطرة، وفي "التجهيل" ضمانة للبقاء، تاركًا البلاد تنحدر نحو الهاوية بسرعة الصاروخ، بينما يقف "العباقرة الوهميون" ليلتقطوا الصور ويحدثوا العالم عن إنجازات لا وجود لها إلا في خيالاتهم.