لم يعد الزواج في مصر "نصف الدين" كما كان يردد الآباء، بل أصبح "الحلم المستحيل" لجيل كامل سحقته قرارات اقتصادية رعناء وسياسات إفقار ممنهجة. الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ليست مجرد إحصائيات صماء، بل هي "وثيقة إدانة" دامغة لنظام حول حياة المصريين إلى جحيم لا يطاق. حين يقفز متوسط سن الزواج إلى 30 عامًا للرجال و27 عامًا للنساء في عام 2024–2025، فنحن لسنا أمام تغير ثقافي طوعي، بل أمام "إضراب قسري" عن تكوين الأسرة فرضه واقع اقتصادي مرير.

 

إن ما يحدث هو اغتيال معنوي لشباب مصر، الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بين مطرقة البطالة وسندان الغلاء الفاحش، ليصبح بناء "عش الزوجية" ضربًا من الخيال في ظل حكومة تخلت عن دورها الاجتماعي، وتفرغت لبيع الأصول وشراء الطائرات الفاخرة، تاركة النسيج الاجتماعي للبلاد يتمزق ببطء.

 

15 عامًا من الانهيار.. رحلة القضاء على "الستر"

 

تكشف البيانات عن تدهور كارثي ومطرد خلال سنوات ما بعد الانقلاب. ففي منتصف العقد الأول من الألفية، كان الشاب المصري يتزوج في سن 26 عامًا، لكن مع توالي الأزمات الاقتصادية وتوحش الأسعار، بدأت هذه السن في الارتفاع التدريجي لتكسر حاجز الثلاثين اليوم. هذا الارتفاع المتواصل (من 26 سنة في 2010 إلى 30 سنة في 2025) هو الترجمة الحقيقية لفشل السياسات الحكومية.

 

القفزات الجنونية في تكاليف السكن، الذهب، والأثاث، جعلت من الزواج مشروعًا استثماريًا يفوق قدرة السواد الأعظم من الشباب. لم يعد الأمر يتعلق برغبة في التأجيل، بل بـ"عجز كامل" عن الوفاء بأبسط متطلبات الحياة، في وقت تتشدق فيه الحكومة بإنجازات وهمية لا يرى المواطن منها سوى مزيد من الفواتير والضرائب.

 

الطلاق.. الهروب من جحيم "الديون"

 

لم تكتفِ سياسات النظام بمنع الزواج، بل لاحقت حتى من نجحوا في "الإفلات" وتكوين أسرة. الأرقام مفزعة: انخفاض عقود الزواج بنسبة 2.5% في 2024، يقابله ارتفاع حالات الطلاق بنسبة 3.1% لتصل إلى 273 ألف حالة، أي بمعدل حالة طلاق كل دقيقتين!

 

الدراسات الأكاديمية الحديثة، سواء من جامعة المنصورة أو عين شمس، قطعت الشك باليقين، مؤكدة أن "الطلاق الاقتصادي" هو العنوان الأبرز للمرحلة. الضغوط المعيشية حولت البيوت إلى ساحات حرب، حيث لا يجد الأزواج سبيلًا للهروب من طاحونة الديون والاحتياجات اليومية سوى هدم المعبد. إن وصول نسب الطلاق في القاهرة إلى 58% هو مؤشر خطير على أن الأسرة المصرية – الحصن الأخير للمجتمع – تنهار تحت وطأة الفشل الحكومي.

 

خبراء: الحكومة تتهرب من المسؤولية بتصريحات "مخدرة"

 

في محاولة يائسة للتنصل من الجريمة، يحاول الخطاب الرسمي تصوير الأزمة كـ"ظاهرة عالمية" أو "تغير ثقافي". لكن الخبراء، ومنهم الدكتور وليد رشاد بالمركز القومي للبحوث، وجمال عبد المولى بالجهاز المركزي للإحصاء، كشفوا المستور؛ مؤكدين أن ما يحدث هو انعكاس مباشر لهشاشة البنية الاجتماعية الناتجة عن الضغوط الاقتصادية.

 

لقد أثبتت الدراسات، مثل دراسة ميادة مصطفى القاسم (جامعة عين شمس)، أن الشباب يعيدون ترتيب أولوياتهم قسرًا نحو "البقاء على قيد الحياة" بدلاً من "بناء أسرة". هذا التأجيل القسري ليس خيارًا، بل هو النتيجة الحتمية لسياسات نظام جعل من "الستر" رفاهية، ومن الزواج عبئًا لا يُحتمل.

 

كارثة اجتماعية طويلة المدى

 

إن ما يزرعه النظام اليوم من يأس وإفقار سيحصد المجتمع أشواكه لعقود قادمة. تفكك الروابط الأسرية، شيوع الفردية والعزلة، وانهيار قيم التضامن الاجتماعي، كلها نذر خطر تهدد بمسح الهوية المصرية.
في ظل غياب أي رؤية حكومية للحل، واكتفاء النظام بدور "المتفرج" أو "الجابي"، يبدو أن مخطط تدمير الأسرة المصرية يسير على قدم وساق، ليترك الملايين من شباب مصر فريسة للعنوسة والبطالة واليأس، بينما تنعم قلة منتفعة بخيرات بلد ينهار.

 

لمطالعة الدراسة ( من هنا )