تحولت واقعة اعتداء رجل مسن على فتاة داخل مترو القاهرة بسبب طريقة جلوسها إلى قضية رأي عام تكشف حجم الانهيار في احترام الحريات الشخصية، وتفضح مناخ الوصاية الأخلاقية الذي صنعته سلطة الانقلاب، حيث يجد كل فرد لنفسه الحق في محاكمة الآخرين في الشارع بينما تغيب دولة القانون.

 

انتشر مقطع الفيديو بشكل واسع على منصات يوتيوب وفيسبوك وتويتر، وتحولت الفتاة من راكبة عادية إلى رمز لصراع مفتوح حول من يملك حق تعريف “الأخلاق” في الفضاء العام.

 

ما الذي جرى داخل المترو؟

 

الفيديو الأول المتداول يُظهر رجلًا مسنًا بملامح صعيدية يصرخ في وجه فتاة تجلس في عربة المترو لأنّها “حاطة رجل على رجل”، قبل أن يلوّح بعصاه في وجهها ويهاجمها لفظيًا مطالِبًا إياها بـ“احترام الرجالة”، وسط ذهول بعض الركاب وصمت أغلبهم، بينما ترد الفتاة بعبارة “إنت مالك؟”.

 

هذا المشهد تم التقاطه بكاميرا هاتف وانتشر على نطاق واسع، ليكشف كيف يمكن لعربة مترو أن تتحول في لحظات إلى محكمة تفتيش متنقلة.

 

 

في مقابلة كاملة مع الفتاة على يوتيوب، تحكي تفاصيل الواقعة بهدوء، وتؤكد أنّ الرجل لم يكتفِ بالصراخ بل ضربها فعليًا في ساقها بعصاه، وسحب رجلها من فوق الأخرى، وأنها لم ترتكب أي فعل مخل بل كانت تجلس بطريقة تناسب إصابة في قدمها، وتستخدم هاتفها وسماعاتها دون إزعاج لأحد.

 

تقول بوضوح: “أنا مغلطش وأهلي بيدعموني ومش هعتذر”، في رد مباشر على الهجمة الأخلاقية التي حاولت تحميلها مسؤولية ما حدث.


 

روايات أخرى للفتاة نُشرت عبر فيسبوك وإنستغرام، تتحدث فيها عن خوفها من تصاعد العنف وقلقها من إمكانية “قلب الرواية” ضدها، وتؤكد أنها لجأت للتصوير ونشر ما جرى لحماية نفسها، في ظل انعدام الثقة في أن إدارة المترو أو الشرطة سيتعاملان بجدية مع شكوى فتاة شابة ضد رجل مسنّ يصوَّر اجتماعيًا كـ“حارس للأخلاق”.

 

 

شهادات وتحليلات تكشف سياق الوصاية

 

على تويتر/إكس، كتب عدد من الصحفيين والناشطات أن ما حدث “ليس خلافًا على وضعية جلوس، بل اعتداء صريح على الحق في الجسد والحرية الشخصية”، مشيرين إلى أن تصوير الفتاة للحظة كان فعلًا دفاعيًا مشروعًا، وأن استخدام عبارات مثل “احترام الرجالة” و“الذوق العام” ليس إلا غطاء لفرض وصاية ذكورية على النساء في المواصلات العامة.

 

إحدى التغريدات البارزة وصفت المشهد بأنه “تحويل الفتاة إلى متهمة لمجرد وجودها”، مؤكدة أن هذا النمط يتكرر في وقائع سابقة.

 

مقالات وتقارير على منصات عربية ربطت بين الحادثة وبين أزمة أعمق في المجتمع المصري، حيث تُستخدم شعارات “القيم” و“الذوق العام” كأدوات لتبرير التدخل في حياة النساء، بدل أن يكون القانون هو المرجعية الوحيدة المنظمة للسلوك في الأماكن العامة.

 

هذه التحليلات حذرت من أن تعنيف فتاة داخل عربة المترو بسبب وضعية جلوسها يعكس أزمة اجتماعية وسياسية في آن واحد، تتعلق بتراجع مفهوم الدولة المدنية لصالح منطق الوصاية الشعبية المدعومة بصمت السلطة.


 

برامج حوارية نُشرت مقاطعها على يوتيوب تناولت الواقعة من زاوية أوسع؛ أحد المحللين الاجتماعيين أكد أن المترو مرفق عام تحكمه لوائح وقانون لا أهواء الأفراد، وأن الرجل تجاوز حدّه قانونيًا وأخلاقيًا حين اعتدى على راكبة بسبب تصوراته الخاصة عن “الوقار”.

 

محللون آخرون رأوا أن صمت الركاب يعكس حالة خوف عام من الاصطدام مع أي شخص يرفع شعار الدين أو الأخلاق، في ظل مناخ سياسي يُكافئ الاستقواء على الضعفاء ويتشدد فقط أمام النقد السياسي.


 

صمت الدولة وتحويل المجتمع إلى محاكم تفتيش متنقلة

 

رغم الضجة الواسعة، لم تُعلن السلطات حتى الآن عن تحقيق جنائي شفاف أو إجراءات واضحة ضد الرجل المعتدي أو ضد تقصير إدارة المترو في حماية راكبة داخل مرفق تديره الدولة، واكتفى المشهد الرسمي بتغطيات إعلامية محايدة أو مائلة للحديث عن “سوء تفاهم” أو “ضرورة احترام الكبار”، كأن المشكلة في طريقة الجلوس لا في الضرب والإهانة.

 

هذا الصمت يشكل رسالة خطيرة مفادها أن الاعتداء على النساء في الأماكن العامة يمكن التساهل معه ما دام مغطى بخطاب أخلاقي فضفاض.


 

سياسيًا، يعكس التغاضي إستراتيجية قديمة للنظام: ترك المجتمع يراقب ويقمع نفسه أخلاقيًا بينما تركز الدولة أجهزتها الأمنية والإعلامية على ملاحقة المعارضة وسحق أي حراك سياسي أو اجتماعي منظم.

 

هكذا تتحول قضايا الحريات الفردية – وعلى رأسها حرية النساء في الفضاء العام – إلى ساحات مفتوحة للتنمر والتشهير والاعتداء، دون حماية قانونية فعلية، في الوقت الذي يُساق فيه الشباب إلى المحاكم لمجرد منشور أو فيديو ينتقد السلطة.

 

 

بين دولة القانون وفوضى الأخلاق المقنّعة

 

واقعة فتاة المترو والعجوز ليست حادثة فردية معزولة، بل جزء من سلسلة طويلة من الانتهاكات التي تستهدف النساء في الشارع والمواصلات وأماكن العمل، وتعيد إنتاج فكرة أن المرأة متهمة حتى تثبت العكس، وأنها مطالبة دائمًا بتقديم مبررات لملابسها وجلوسها وضحكتها ووجودها نفسه.

 

حين تُترك هذه الانتهاكات بلا ردع حقيقي، تتحول إلى سوابق تشجع آخرين على تكرارها، وتدفع المجتمع خطوة جديدة نحو فوضى أخلاقية مقنّعة بشعارات الفضيلة.

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Daraj Media (@darajmedia)

 

الدولة الحديثة لا تُدار بالوصاية الفردية ولا بالاشتباه في المواطنين، بل بقانون واضح يحمي الحرية الشخصية ما دامت لا تتضمن اعتداء على الغير.

 

إما أن تتعامل السلطة مع ما حدث كجريمة مكتملة الأركان – ضرب، وبلطجة، وسب علني – وتُرسل رسالة بأن جسد المرأة وكرامتها خط أحمر، أو تستمر في سياسة الصمت التي تعني عمليًا تفويض الشارع ليتحول إلى سلسلة من محاكم التفتيش، وكل عربة مترو إلى غرفة تحقيق، وكل امرأة إلى ملف مفتوح للمساءلة، بينما يبقى النظام فوق المساءلة.