في واقعة تكشف عن الوجه القبيح لنظام صحي متهالك يديره العسكر بمنطق "تأدية الواجب" لا إنقاذ الأرواح، يغلق مستشفى دندرة العام بمحافظة قنا أبوابه في وجه آلاف المرضى يومياً بمجرد دقات الساعة الثانية ظهراً. هذا الإغلاق غير المعلن، الذي أصبح عرفاً سارياً، يحول المستشفى الحكومي الذي يُفترض أن يعمل على مدار الساعة لخدمة المواطنين، إلى "مصلحة حكومية" تنتهي علاقتها بالبشر بانتهاء مواعيد الحضور والانصراف، تاركة المرضى يواجهون آلامهم ومصائرهم المجهولة على أرصفة الانتظار أو في رحلات محفوفة بالمخاطر إلى مستشفيات أخرى.

 

إن مشهد المرضى وهم يتكدسون أمام بوابات المستشفى المغلقة بعد الظهر، يستجدون حارس الأمن للدخول أو البحث عن طبيب، هو إدانة صارخة لحكومة الانقلاب التي تتباهى بمبادرات "100 مليون صحة" على الشاشات، بينما تترك الواقع على الأرض ينهشه الفساد والإهمال. ففي دندرة، لا قيمة لآدمية الإنسان، ولا اعتبار لقسم الأطباء، ولا وجود لدولة القانون التي تُلزم المستشفيات بتقديم الخدمة؛ فقط قانون "الغاب" الذي يفرض على الفقير أن يمرض ويموت في المواعيد الرسمية التي تحددها بيروقراطية النظام، وإلا فلا عزاء له.

 

"الهروب الكبير".. أطباء يتاجرون بالآلام ومسؤولون "خارج الخدمة"

 

ما يحدث في دندرة ليس مجرد نقص في الإمكانيات، بل هو "فساد إداري" ممنهج. فظاهرة "تسرب الأطباء" بعد الثانية ظهراً للعمل في عياداتهم الخاصة تحولت إلى قاعدة، حيث يوقعون في دفاتر الحضور صباحاً ويغادرون ظهراً، تاركين المستشفى خاوياً إلا من طاقم تمريض عاجز وحراس أمن يلعبون دور الأطباء في صرف المرضى. هذا الهروب الجماعي يتم تحت سمع وبصر مديرية الصحة بقنا، التي تكتفي بإرسال لجان تفتيش "صورية" لذر الرماد في العيون، دون اتخاذ أي إجراءات رادعة تضمن بقاء الأطباء في نوبتجياتهم المسائية لإنقاذ الأرواح.

 

إن تحويل مستشفى عام يخدم آلاف الأسر إلى "وحدة صحية" تعمل بدوام جزئي هو جريمة إهدار للمال العام واستهتار بحياة المواطنين. فالبنية التحتية موجودة، والأجهزة -وإن كانت قليلة- متوفرة، لكن العنصر البشري الذي يتقاضى راتبه من ضرائب هؤلاء الفقراء يختار خيانة أمانته، بمباركة نظام لا يحاسب المقصرين طالما أنهم لا يعارضونه سياسياً.

 

الموت على الطرقات.. ضريبة "التحويل" الإجباري

 

النتيجة الحتمية لهذا الإغلاق "الظهري" هي تحويل أي حالة طارئة تأتي بعد الثانية ظهراً إلى مستشفى قنا العام أو الجامعي. هذا القرار "السهل" بالنسبة لإدارة المستشفى، هو في الحقيقة حكم بالإعدام على الحالات الحرجة التي لا تحتمل التأخير. فالمريض الذي يعاني من أزمة قلبية أو نزيف حاد يُجبر على خوض رحلة عذاب في وسائل مواصلات غير مجهزة، غالباً ما تنتهي بوفاته قبل الوصول إلى الوجهة البديلة.

 

الأهالي يروون قصصاً مأساوية عن ذويهم الذين لفظوا أنفاسهم الأخيرة في "التوك توك" أو سيارات الأجرة أثناء البحث عن مستشفى يستقبلهم بعد أن أوصد مستشفى دندرة أبوابه في وجوههم. هذه الدماء التي تسيل على طرقات قنا هي في رقبة كل مسؤول في وزارة الصحة ومحافظة قنا سمح باستمرار هذه المهزلة، واكتفى بمشاهدة الكارثة من مكاتبه المكيفة.

 

فوضى التبعية.. والتهميش المتعمد للصعيد

 

تزيد الطين بلة حالة "التخبط الإداري" التي يعاني منها المستشفى، حيث تتضارب الصلاحيات بين وزارة الصحة وجامعة جنوب الوادي، في ظل قرارات بنقل التبعية أو تخصيص أقسام، ما خلق فراغاً إدارياً يدفع ثمنه المواطن البسيط. هذا الارتباك ليس صدفة، بل هو جزء من سياسة تهميش الصعيد التي ينتهجها نظام الانقلاب، حيث تُدار المحافظات الجنوبية بمنطق "المسكنات" والحلول الترقيعية.

 

إن استمرار إغلاق مستشفى دندرة بعد الظهر هو رسالة واضحة من النظام لأهالي قنا: "صحتكم ليست أولوية، وحياتكم لا تساوي ثمن تشغيل المستشفى ليلاً". وسيبقى هذا المستشفى المغلق وصمة عار تلاحق حكومة تدعي بناء "الجمهورية الجديدة"، بينما تعجز عن إبقاء باب مستشفى مفتوحاً لرحمة مريض يتألم في جوف الليل.