في وقت يطحن فيه الغلاء عظام المصريين وتلتهم فوائد الديون أكثر من نصف الموازنة العامة، خرج رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بتصريحات صادمة تجاوزت حدود التفاؤل إلى ما يشبه "الانفصال عن الواقع"، مبشراً بخفض الدين الخارجي إلى "مستويات السبعينيات" خلال ثلاث سنوات فقط.

 

هذا التصريح، الذي يبدو في ظاهره طمأنة للرأي العام، تحول سريعاً إلى مادة للسخرية والتشكيك بفضل لغة الأرقام التي لا تكذب. فقد تصدى الدكتور مراد علي لهذه السردية الحكومية، مفنداً إياها بحسبة رياضية بسيطة كشفت عورة الخطاب الرسمي، ومؤكداً أن الاقتصاد لا يُدار بالأمنيات والأحلام الوردية، بل بالحقائق المجردة التي تؤكد أننا أمام "استخفاف" بعقول المواطنين والمستثمرين على حد سواء.

 

الأزمة ليست في الرغبة في خفض الديون، بل في استحالة تحقيق ذلك وفق المعطيات الحالية، وهو ما يضع الحكومة أمام تهمة ترويج "الوهم" لشراء الوقت، في حين أن الأرقام الحقيقية تشير إلى كارثة تتفاقم، لا إلى انفراجة تقترب.

 

حسابات "اللا معقول".. كيف يختفي 158 مليار دولار في 3 سنوات؟

 

التقط الدكتور مراد علي الخيط من تصريح رئيس الوزراء، ليضعه تحت مجهر التحليل الرقمي، كاشفاً عن الفجوة الهائلة بين "التصريح" و"المنطق". فالدين الخارجي لمصر حالياً يلامس سقف الـ 163 مليار دولار، بينما كانت مستويات الدين في حقبة السبعينيات – التي وعد رئيس الوزراء بالعودة إليها – لا تتجاوز 5 مليارات دولار. هذا يعني عملياً أن الحكومة مطالبة بسداد أو شطب ما يقرب من 158 مليار دولار خلال 36 شهراً فقط!
 

 

يتساءل علي باستنكار مشروع: كيف يمكن تحقيق هذه المعجزة المالية في وقت تشير فيه البيانات الرسمية إلى أن الدين الخارجي ارتفع بنحو 8 مليارات دولار في العام الماضي وحده؟ الانتقال من مسار "زيادة الديون" إلى مسار "السداد الجذري" بهذا الحجم يتطلب فوائض مالية خرافية لا يمتلكها الاقتصاد المصري، أو بيعاً لأصول الدولة بالكامل، وهو ما لم يفصح عنه رئيس الوزراء. إن القفز فوق هذه الحقائق دون تفسير يجعـل من التصريح الحكومي "نكتة مبكية"، تؤكد أن من يدير الملف الاقتصادي إما أنه لا يدرك حجم الكارثة، أو أنه يراهن على ذاكرة السمك لدى الجمهور.

 

الاقتصاد لا يدار بـ"الدعوات".. والمستثمرون لا يقرأون الفنجان

 

النقطة الجوهرية التي أثارها مراد علي هي خطورة مثل هذه التصريحات "العنترية" على سمعة مصر الدولية. فالمستثمرون الأجانب، ومؤسسات التصنيف الائتماني، وصندوق النقد الدولي، لا يتعاملون بالنوايا الحسنة أو الخطب الحماسية، بل يراقبون الجداول الزمنية ومصادر التمويل بدقة جراحية. حينما يعد مسؤول رفيع بمحو 97% من ديون الدولة في ثلاث سنوات دون طرح خطة واضحة ("Roadmap") تشرح "من أين لك هذا؟"، فإن النتيجة الفورية هي فقدان المصداقية تماماً.

 

الخطاب المتفائل بلا رصيد يتحول إلى عبء ثقيل؛ فهو يرسل رسالة للأسواق بأن القيادة السياسية والاقتصادية تعيش في "لالا لاند"، منفصلة عن تعقيدات المشهد المالي العالمي. وبدلاً من أن تبعث هذه الوعود الطمأنينة، فإنها تفتح باب الشك على مصراعيه، وتجعل أي رقم رسمي يصدر مستقبلاً محط ريبة، فالذي يعد بـ"المستحيل" اليوم، لن يتورع عن تزييف الحقائق غداً.

 

"بيع الوهم" للشعب.. استراتيجية الهروب إلى الأمام

 

يخلص تحليل الدكتور مراد علي والمراقبين للمشهد إلى أن هذه التصريحات ليست زلة لسان، بل هي منهجية مستمرة في "بيع الوهم" للمواطن المطحون. النظام الذي أغرق البلاد في ديون تاريخية لتمويل مشاريع خرسانية، يحاول الآن غسل يديه من الأزمة بوعود براقة عن "العودة لزمن الرخاء" (حقبة السبعينيات)، متجاهلاً أن الحل يبدأ بالمصارحة والمحاسبة، لا بالشعارات.

 

القفز فوق الأرقام دون تقديم مصادر تمويل معلنة (هل هي صفقات رأس الحكمة جديدة؟ أم بيع أصول سيادية؟) يضعنا أمام سيناريو مرعب: إما أن الحكومة لا تملك خطة وتكتفي بالتخدير الموضعي للرأي العام، أو أنها تملك خطة "كارثية" لبيع ما تبقى من الدولة لسداد الديون وتخفيها خلف عبارات منمقة. وفي الحالتين، فإن النتيجة واحدة: استمرار استنزاف المواطن، وتآكل ما تبقى من الطبقة المتوسطة، بينما تستمر ماكينة الدعاية في الحديث عن إنجازات لا وجود لها إلا في خيال المسؤولين. إن الاقتصاد، كما أكد علي، يحتاج لسياسات وقدرة على التنفيذ، وليس لوعود تتبخر بمجرد ملامستها لأرض الواقع.