لم يعد نهر النيل، شريان الحياة الذي وهبه الله للمصريين، ملكاً لهم. ففي عهد الجمهورية الجديدة، تحول النهر الخالد إلى "سلعة" تباع لمن يملك ثمن التذكرة، وتحيط به أسوار العزل الطبقي التي شيدتها حكومة الانقلاب تحت شعار "التطوير".

 

مشروع "ممشى أهل مصر"، الذي سوقه النظام كإنجاز قومي ومتنفس للغلابة، سقط قناعه الزائف ليكشف عن وجه قبيح لسياسات الجباية والخصخصة، حيث بات النيل حكراً على الأثرياء وحاملي الجنسيات الأجنبية، بينما يقف ملايين المصريين، مثل الشاب "زياد"، خلف الأسوار والبوابات الإلكترونية، ينظرون بحسرة إلى نهرهم الذي كان يوماً متاحاً للجميع بالمجان.

 

هذا المشروع لم يسرق النيل فقط، بل تحول إلى بؤرة فساد مالي وإداري تزكم الأنظار، وتخضع لتحقيقات نيابة الأموال العامة، في فضيحة تكشف كيف تدار "المشاريع القومية" بمنطق السبوبة وخدمة المنتفعين، على حساب حقوق الشعب وتاريخه.

 

من "أهل مصر" إلى "أغنياء مصر": تسعيرة الهواء والنهر

 

تحول اسم المشروع من "ممشى أهل مصر" إلى "ممشى أغنياء مصر" في الوعي الشعبي، وهو وصف دقيق لواقع مؤلم. فدخول الممشى، الذي كان يفترض أنه حق عام، بات مشروطاً بتذاكر تتراوح بين 20 و75 جنيهاً للفرد، ناهيك عن رسوم مواقف السيارات التي تصل لـ100 جنيه مقدماً، وأسعار خيالية للمأكولات والمشروبات تجعل "الفسحة" البسيطة حلماً بعيد المنال لأسرة متوسطة الدخل، فما بالك بالفقراء الذين يمثلون السواد الأعظم من الشعب.

 

يرى مراقبون أن هذه السياسة ليست مجرد غلاء أسعار، بل هي "إقصاء ممنهج". فالحكومة تتعمد وضع حواجز مالية لعزل البسطاء عن المناطق "المطورة"، لتحويلها إلى جيتوهات سياحية معزولة تدر العملة الصعبة، متجاهلة أن الحق في المدينة والمجال العام هو حق دستوري وإنساني لا يجوز بيعه في مزاد الاستثمار.

 

فساد بـ 650 مليون جنيه: السبوبة خلف اللافتة الوطنية

 

لم يكتفِ النظام بحرمان الفقراء من النيل، بل حول المشروع إلى "مغارة علي بابا" للنهب. فقد كشفت تحقيقات نيابة الأموال العامة العليا (القضية رقم 124 لسنة 2025) عن مخالفات مالية وإدارية جسيمة تقدر بنحو 650 مليون جنيه في أعمال تشغيل وإدارة الممشى. هذه المخالفات شملت التلاعب في العقود، وتغيير التصميمات الهندسية لزيادة المساحات التجارية على حساب ممرات المشاة، وتأجير مساحات دون توريد مستحقات الدولة، في مشهد يعكس غياب الرقابة وتواطؤ المسؤولين.

 

والأدهى من ذلك، هو تحويل الممشى "السياحي" إلى وكر لمخالفات أخلاقية وقانونية، كما حدث في واقعة إغلاق ملهى "ذا لندن" الذي كان يبيع الخمور ويعمل دون ترخيص لسنوات تحت سمع وبصر الأجهزة المعنية، مما يطرح تساؤلات مشروعة: من يحمي هؤلاء الفاسدين؟ وهل باتت "المشاريع القومية" غطاءً لغسيل الأموال والتربح غير المشروع؟

 

تدمير الذاكرة والتاريخ: البلدوزر لا يرحم

 

في سبيل "الاستثمار"، لم تتورع الحكومة عن دهس تاريخ القاهرة وتراثها. فقد تم هدم حدائق ومنشآت نيلية عريقة بحجة التطوير، واقتلاع أشجار معمرة كانت تظلل الكورنيش لعقود، لتزرع مكانها كافيهات ومطاعم خرسانية قبيحة تحجب رؤية النيل. ينتقد الكاتب الصحفي محمد عبد القدوس هذه الهجمة الشرسة، مشيراً إلى أن البلدوزر الحكومي يميز بين "أندية الكبار" التابعة لجهات سيادية التي بقيت محصنة، وبين متنزهات الغلابة التي أزيلت بدم بارد.

 

إن ما يحدث في "ممشى أهل مصر" هو نموذج مصغر لما يحدث في مصر كلها: بيع للأصول، تهميش للفقراء، وفساد ينخر في عظام المشاريع الكبرى. فبينما يروج إعلام النظام لـ"الجمهورية الجديدة"، يرى المواطن العادي "جمهورية الجباية" التي تفرض عليه تذكرة ليمشي في الشارع، ورسماً ليرى النيل، وضريبة ليتنفس الهواء، في انتظار يوم يعود فيه النهر لمجراه الطبيعي.. ملكاً لكل المصريين بلا أسوار ولا سماسرة.