تتحدث حكومة الانقلاب منذ سنوات عن خطط كبرى لتطوير قطاع الكهرباء، بدءًا من التوسع في الطاقة المتجددة، مرورًا بالتعاون مع دول الخليج في مشاريع الربط الكهربائي، وانتهاءً بإعلان مصر تحقيق "فائض في الإنتاج" عام 2019، ومع ذلك، لا تزال أزمة الانقطاعات تتكرر وتتفاقم، مما يثير تساؤلات حول مصداقية الأرقام والتصريحات الرسمية.
وفي هذا السياق أعلن مسؤولون في قطاع الكهرباء المصري أن مصر تحتاج إلى استثمارات تتراوح بين 7 و8 مليارات دولار خلال السنوات العشر المقبلة لتحديث شبكة الكهرباء ورفع قدرتها التشغيلية، وذلك بالتعاون مع القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب.
جاء هذا التصريح في عام 2024 على لسان مسؤولين في وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة، من بينهم الدكتور محمود عصمت وزير الكهرباء، الذي أكد على أهمية هذه الاستثمارات في تطوير الشبكة الكهربائية وتحويلها إلى شبكة ذكية قادرة على استيعاب القدرات التوليدية الكبيرة، خاصة من مصادر الطاقة المتجددة.
أين ذهبت المليارات؟
خلال السنوات العشر الأخيرة، أنفقت مصر عشرات المليارات من الجنيهات على مشاريع في قطاع الكهرباء، أبرزها محطات "سيمنز" العملاقة في بني سويف والبرلس والعاصمة الإدارية، بقدرة إجمالية تفوق 14.4 جيجاوات، لكن رغم هذه الاستثمارات، فإن المواطن المصري لم يشعر بتحسّن ملموس، لا في جودة الخدمة ولا في استقرار الإمدادات.
ويرى محللون أن جزءًا من المشكلة يكمن في التركيز على التوسع في الإنتاج دون إصلاح حقيقي لشبكة النقل والتوزيع، التي تُهدر كميات كبيرة من الطاقة نتيجة الفاقد الفني، وهو ما تصل نسبته في بعض المناطق إلى 20 % من الطاقة المنتجة.
كما أشار تقرير للبنك الدولي صدر في 2022 إلى أن مصر بحاجة إلى تحديث شبكة التوزيع والبنية الرقمية لضمان إدارة أكثر كفاءة للطاقة، وأن تأخر هذه الخطوات يحدّ من فعالية أي توسع في الإنتاج.
لماذا تحتاج مصر إلى هذه الميزانية الكبيرة؟
تُعزى الحاجة إلى هذه الميزانية الضخمة إلى عدة عوامل رئيسية، منها:
- تحديث الشبكة الكهربائية: تشمل الاستثمارات إحلال وتجديد محطات وخطوط الجهد العالي والفائق، وتوسيع محطات وكابلات جديدة، إلى جانب تطوير مراكز التحكم الإقليمية والقومية، مثل مركز التحكم القومي الجديد بالعاصمة الإدارية.
- زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة: تسعى مصر إلى رفع مساهمة الطاقات المتجددة إلى 42% من إجمالي الطاقة المولدة بحلول عام 2030، وهو ما يتطلب بنية تحتية متطورة لاستيعاب هذه القدرات الجديدة.
- خفض الفاقد الفني وتحسين كفاءة الشبكة: تعمل الوزارة على خفض الفقد الفني إلى مستويات أقل من 3.5%، وتحسين جودة واستمرارية التيار الكهربائي.
- التحديات التشغيلية والبيئية: ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف يؤدي إلى زيادة استهلاك الكهرباء بشكل كبير، مما يضغط على الشبكة ويتسبب في أعطال متكررة، خاصة في المحولات، إضافة إلى نقص إمدادات الوقود لمحطات التوليد.
لماذا لا تنتهي أزمة الكهرباء في مصر رغم هذه الاستثمارات؟
رغم الخطط الطموحة والاستثمارات الكبيرة، تستمر أزمة انقطاع الكهرباء في مصر لأسباب معقدة:
- نقص إمدادات الوقود: تعاني محطات الكهرباء من نقص في الوقود اللازم للتشغيل، حيث تحتاج البلاد إلى نحو 170 مليون متر مكعب مكافئ يوميًا من الغاز والمازوت، بينما المتوفر فعليًا أقل من ذلك، مما يؤدي إلى اضطرار الحكومة إلى تطبيق خطط تخفيف الأحمال وقطع التيار في بعض المناطق.
- زيادة الطلب على الكهرباء: سجلت مصر معدلات استهلاك قياسية تجاوزت 38 ألف ميغاواط، متجاوزة التقديرات التي وضعت على أساسها خطط استيراد الوقود، مما أدى إلى فجوة في تلبية الطلب.
- أعطال فنية متكررة: ارتفاع درجات الحرارة يسبب خروج بعض المحولات عن العمل، مما يؤدي إلى انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي.
- تأخر في ظهور نتائج الآبار الجديدة للغاز: دراسة حديثة أظهرت أن الإنتاج المحلي للغاز أقل من المتوقع، مما يهدد بتكرار أزمة انقطاع الكهرباء في صيف 2025.
لماذا لا تعمل حكومة الانقلاب على راحة المواطنين بشكل كامل؟
تتعدد الأسباب التي تحول دون تحقيق راحة كاملة للمواطنين في ملف الكهرباء، منها:
- الاعتماد الكبير على الوقود الأحفوري واستيراده: رغم وجود موارد غازية محلية، إلا أن الإنتاج لا يغطي الطلب المتزايد، مما يجعل مصر تعتمد على استيراد شحنات وقود مكلفة وغير مستقرة.
- التحديات المناخية والبيئية: ارتفاع درجات الحرارة يزيد من استهلاك الكهرباء ويضغط على الشبكة، ما يزيد من احتمالية حدوث أعطال وانقطاعات.
- تأخر تحديث البنية التحتية: رغم الاستثمارات، فإن تحديث الشبكة وتحويلها إلى شبكة ذكية عملية بطيئة تستغرق سنوات ولا تضعها حكومة الانقلاب على جدول أعمالها.
- الإدارة والتخطيط: هناك فجوة بين التقديرات الحكومية والواقع الفعلي في الإنتاج والاستهلاك، مما يؤدي إلى تخطيط غير دقيق وعدم تلبية الطلب الفعلي.
- الأولويات السياسية والاقتصادية: قد تؤثر عوامل سياسية واقتصادية داخلية على سرعة تنفيذ المشاريع وتوفير التمويل اللازم، بالإضافة إلى التركيز على مشاريع معينة دون غيرها.
في النهاية، تظل أزمة الكهرباء في مصر نموذجًا لفشل الإدارة الحكومية في التعامل مع ملف حيوي يمسّ الحياة اليومية للمواطن، فبين التصريحات المتفائلة والاستثمارات الضخمة، يبقى الواقع مختلفًا، الظلام سيد الموقف، والمواطن هو من يدفع الثمن.