أظهرت وثائق حكومية وتحليلات مستقلة أن الإنفاق الفعلي على الصحة والتعليم في مصر لا يلتزم بالنسب الدستورية (3٪ للصحة و4٪ للتعليم)، وأن حكومة الانقلاب شرعت في "تعريف معدل" للإنفاق وتحجيم البيانات الرسمية، بل حجزت معظم نتائجِ مسح الدخل والإنفاق الذي يجريه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ما يجعل أي ادعاء بتحقيق الالتزام الدستوري محل شك.
الدستور وما يقتضيه من أرقام
ينصَّ دستُور 2014 أي بعد الانقلاب العسكري بوضوح على تخصيص نسبة لا تقل عن 3% من الناتج المحلي للصحة و4% للتعليم، إلى جانب نسب أخرى للتعليم العالي والبحث العلمي.
الهدف المعلن كان الوصول تدريجياً إلى "المعدلات العالمية"، هذه النسب ليست توصية بل التزام دستوري.
ما اعترفت به حكومة الانقلاب في "سرديتها".. حجب النتائج والتلاعب بالتعريفات
في تقرير تحليلي نشرته "مدى مصر" بتاريخ 15 سبتمبر 2025، أفادت الصحيفة أن الوثيقة الرسمية لحكومة الانقلاب، ما سمّته "سردية التنمية" تعترف بأن الإنفاق الوظيفي الحقيقي على بندَي الصحة والتعليم لم يصل إلى الالتزام الدستوري، وأن الحكومة تعتمد منذ 2016 تعريفاً معدلًا للإنفاق، يسمح بتضخيم النسب الظاهرية أو إعادة تصنيف بنود لتبدو ملتزمة بينما الوقائع على الأرض غير ذلك، كما تذكر الوثيقة أن معظم نتائج مسح الدخل والإنفاق حُجبت عن النشر.
أرقام الميزانية التي تكشف الفجوة
تحليلات للميزانية العامة أظهرت تخصيصات متدنية، نقلت تقارير مستقلة أن حصة الإنفاق الحكومي على الصحة قد تبلغ قرابة 1.16% من الناتج في ميزانية 2024/25، وعلى التعليم نحو 1.7%، أقل من نصف ما يقتضيه الدستور.
في المقابل، صَرَّحَت حكومة الانقلاب رسمياً بزيادات اسمية في الإنفاق في الميزانية العامة (ميزانية 2025/26 قُدِّرت بحوالي 4.6 تريليون جنيه)، لكن هذه الزيادات لا تُترجم إلى حصص دستورية مخصصة للصحة والتعليم عند فحص الإنفاق الوظيفي الفعلي.
تصريحات وزارية واقتصادية متضاربة
وزيرة التخطيط د. هالة السعيد ومسؤولون آخرون بحكومة الانقلاب عرضوا مرارا "أهداف نمو" وتحسناً في مؤشرات كليّة؛ في المقابل، منظمات حقوقية ومحلّلون اقتصاديون يقولون إن الأرقام الحقيقية تبيّن تراجعاً في الإنفاق على هذه القطاعات الأساسية.
منظمة مثل Human Rights Watch وثقت انخفاض حصة التعليم من الناتج واعتبرت أن الانخفاض يضرّ بحق التعليم.
بهذا التناقض، تصبح تصريحات الوزارة الرسمية عن تحسين الخدمات غير مقنعة ما لم تُنشر بيانات مفصّلة ومسحية واضحة.
لماذا حجب نتائج مسح الدخل والإنفاق خطير؟
مسح الدخل والإنفاق (HIECS) هو أعمدة الشفافية الاقتصادية؛ توفر بيانات عن فقر الأسر، التفاوت، الإنفاق على الصحة والتعليم من القطاع الخاص، ومدى تأثير سياسات الدعم والرسوم.
حجب حكومة الانقلاب معظم نتائج المسح يجعل من الصعب على الباحثين ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني تقييم مدى فاعلية الإنفاق العام أو قياس الفقر الحقيقي.
كما أنه يفتح الباب أمام تجميل مؤشرات البطاقة الرسمية التي تُقدَّم للجمهور وللمقرضين الدوليين.
استراتيجيات الحكومة لتبرير القصور. تعريفات وإعادة تصنيف
الأسلوب المتكرر الذي وثقته تقارير مستقلة هو استخدام "تعريف معدل" للإنفاق أو إعادة تصنيف بنود الميزانية مثل نقل نفقات إلى بنود استثمارية أو دعم أو إعانات بدلاً من إنفاق وظيفي مباشر على المدارس والمستشفيات، ما يخفي التراجع الحقيقي في الإنفاق اليومي على الخدمات.
هذا النوع من المحاسبة يحقق امتثالاً شكلياً أمام القوانين أو الاتفاقيات لكنه لا يترجم إلى مدارس أفضل أو مستشفيات مجهزة أو رواتب أطباء ومعلمين كافية.
أثر الحجب على الفقراء والإنفاق الخاص
عندما ينخفض الإنفاق العام على التعليم والصحة، تلجأ الأسر إلى الإنفاق الخاص، ما يُمثّل عبئاً مالياً مباشراً على الفقراء.
دراسات سابقة وأرقام ERF تُظهر أن الأسر في الشرائح الدنيا تنفق نسبة كبيرة من دخلها على التعليم والصحة عند تراجع الإنفاق العام، بينما تؤدي ميزانيات حكومية ضعيفة إلى تدهور جودة الخدمات العامة ورفع رسومها غير الرسمية.
حجب نتائج مسح الدخل يمنع تتبُّع هذا التحوّل أو تقدير حجمه بدقة.
من يحمّل حكومة الانقلاب مسؤولية الخداع بالأرقام؟
منظمات حقوق الإنسان، ومحلّلون اقتصاديون مستقلون يشدّدون على أن حكومة الانقلاب تستخدم مزيجاً من:
(1) تعريفات محاسبية مرنة
(2) حجب بيانات المسوح الأساسية
(3) تصريحات عامة متفائلة لتشكيل سرد إعلامي مفاده أن الأهداف الدستورية أو الإنمائية قد تحققت أو قيد التحقيق، بينما الواقع الميداني يثبت العكس.
هذه الممارسات تقوّض ثقة الجمهور وتعرقل الرقابة المجتمعية والبيروقراطية الفعّالة.
ماذا ينبغي أن يحدث؟
المطلوب فوراً: نشر كامل لنتائج مسح الدخل والإنفاق وتفصيل الإنفاق الوظيفي على الصحة والتعليم بأرقام مطابقة للمحاسبة العامة، ومراجعة التعريفات المحاسبية المستخدمة منذ 2016، وإشراك مؤسسات مستقلة ومجتمع مدني وخبراء دوليين للتحقق من الأرقام.
دون ذلك، ستبقى الادعاءات الحكومية عن تحسين الخدمات، مجرد غطاء لأرقام لا تعكس الواقع، وسيستمر المواطنون بدفع الثمن عبر خدمة صحية وتعليمية متدهورة.