كشفت تقارير حديثة صادرة عن وزارة المالية أن الحكومة المصرية تمكنت من تحصيل 21 مليار جنيه خلال العام المالي الماضي من حصيلة ضريبة القيمة المضافة على أنشطة التجارة الإلكترونية، محققة زيادة ضخمة بلغت 101% مقارنة بالعام المالي السابق.

ورغم أن هذه الأرقام تبدو على السطح دليلاً على نجاح الحكومة في تعظيم مواردها الضريبية، إلا أنها في العمق تعكس واقعاً مغايراً، حيث يرى خبراء أن سياسات "الجباية" المتصاعدة باتت تعرقل النمو الاقتصادي، وتدفع الشركات العالمية، خصوصاً في قطاع التكنولوجيا والتجارة الرقمية، إلى التفكير جدياً في مغادرة السوق المصرية.
 

ضريبة القيمة المضافة على التجارة الإلكترونية: أرقام قياسية أم أزمة خفية؟
بحسب البيان المالي، فإن تحصيل 21 مليار جنيه من قطاع التجارة الإلكترونية يعد إنجازاً للحكومة، التي تتباهى بأنها ضيقت الخناق على الأنشطة الرقمية غير الرسمية، ونجحت في إخضاعها للرقابة.
غير أن هذه الأرقام تكشف وجهاً آخر للأزمة، إذ أن الزيادة المفرطة في الإيرادات لم تأت نتيجة نمو اقتصادي حقيقي أو توسع في قاعدة المستهلكين، بل بسبب تشديد الضرائب وزيادة معدلات التحصيل.

يرى الخبير الاقتصادي الدكتور محمود العشري أن هذا النهج يمثل "جباية مقننة" أكثر منه إصلاحاً مالياً، قائلاً: "القطاع الرقمي بطبيعته مرن وعابر للحدود، وإذا شعر المستثمرون أن البيئة المصرية خانقة، فلن يترددوا في تحويل أعمالهم إلى أسواق أكثر استقراراً وشفافية".
 

بيئة طاردة للاستثمارات العالمية
يشير مراقبون إلى أن الضغط الضريبي المتواصل، سواء عبر ضريبة القيمة المضافة أو الرسوم الإدارية المصاحبة لها، جعل مصر بيئة أقل جذباً للاستثمارات الأجنبية.
شركات عالمية كبرى في مجالات التجارة الإلكترونية والتوصيل والخدمات السحابية بدأت تخفّض حجم نشاطها أو تعيد تقييم وجودها في مصر، تجنباً لتكاليف التشغيل الباهظة وتعقيدات الإجراءات.

ويؤكد الخبير الاستثماري أحمد كمال أن السياسات الحالية تفتقد إلى التوازن: "الدولة تتعامل مع القطاع الخاص باعتباره بقرة حلوب للضرائب، متناسية أن الاستثمار يحتاج إلى حوافز واستقرار تشريعي. الرسالة التي تصل للشركات اليوم هي: اخرجوا قبل أن تتفاقم الأعباء"، على حد قوله.
 

المواطن يدفع الثمن مرتين
لا يقتصر أثر هذه السياسات على المستثمرين فقط، بل ينعكس مباشرة على المواطن الذي يتحمل في النهاية فاتورة الضرائب غير المباشرة.
فكل زيادة في ضريبة القيمة المضافة تُترجم إلى ارتفاع أسعار الخدمات والسلع الرقمية، بدءاً من منصات البث عبر الإنترنت، مروراً بخدمات التوصيل، وصولاً إلى تطبيقات البيع بالتجزئة.

يقول الخبير الاقتصادي الدكتور محمد عوض: "الضرائب غير المباشرة مثل ضريبة القيمة المضافة تُعتبر من أكثر الأدوات المجحفة بحق المواطن، لأنها لا تميز بين غني وفقير. النتيجة أن المواطن البسيط يتحمل نفس العبء الضريبي الذي يتحمله أصحاب الدخول المرتفعة، مما يزيد من معدلات التضخم والضغط المعيشي".
 

غياب رؤية للإصلاح الضريبي
تعكس هذه التطورات غياب رؤية إصلاحية حقيقية للنظام الضريبي في مصر.
فبدلاً من توسيع القاعدة الإنتاجية وجذب استثمارات جديدة، تركز الحكومة على تشديد التحصيل من القطاعات القائمة، بما في ذلك القطاعات الحديثة مثل التجارة الإلكترونية.
وهو ما وصفه بعض الاقتصاديين بأنه "نهج قصير النظر"، قد يوفر إيرادات عاجلة للخزانة العامة، لكنه يقوّض على المدى البعيد فرص النمو وجذب الاستثمارات.

وفي هذا السياق، يرى الخبير الضريبي هشام السعيد أن الحل يكمن في إصلاح شامل للنظام: "الإصلاح الضريبي لا يعني زيادة الضرائب، بل يعني تبسيط الإجراءات، وتحقيق العدالة، وربط الضرائب بمستوى الخدمات المقدمة. إذا لم يشعر المواطن والمستثمر بجدوى ما يدفعه، فلن يكون هناك التزام ولا استقرار".
 

مستقبل غامض للقطاع الرقمي
مع استمرار هذه السياسات، يواجه قطاع التجارة الإلكترونية في مصر مستقبلاً غامضاً. فبينما يحقق القطاع نمواً عالمياً مضطرداً، يظل مهدداً محلياً بسبب غياب الحوافز والضغوط الضريبية.
وإذا استمرت الحكومة في نهجها الحالي، قد تتحول مصر إلى سوق هامشية تتراجع فيها المنافسة، مما يضر بالاقتصاد الكلي ويقوض جهود التحول الرقمي التي تتحدث عنها الدولة في خططها الرسمية.

والخلاصة أنه ما بين خطاب رسمي يحتفي بزيادة الإيرادات الضريبية، وواقع استثماري يتسم بالانكماش والقلق، تبقى الحقيقة أن مصر باتت بيئة أقل جذباً للاستثمارات العالمية.
إن الجبايات المبالغ فيها لا يمكن أن تكون بديلاً عن سياسات تنموية جادة، بل على العكس، هي وصفة لإضعاف الاقتصاد وإرهاق المواطنين، وإرسال رسالة سلبية للمستثمرين بأن "مصر بيئة طاردة".