لم يعد الحديث عن انهيار النموذج الاقتصادي لنظام قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي مجرد تكهنات من المعارضة، بل تحول إلى "حقيقة رقمية" دامغة وثقتها المؤسسات الدولية التي طالما اعتمد عليها النظام للاقتراض.
فقد أصدر البنك الدولي تقريراً بمثابة "شهادة وفاة" للسياسات المالية الحالية، واصفاً المرحلة الراهنة بأنها الأصعب في تاريخ مصر الحديث. التقرير لم يكتفِ بالتحذير، بل عرّى استراتيجية النظام القائمة على "الصفقات الشيطانية"—أي التوسع الجنوني في الاقتراض الخارجي لسد العجز دون أي إصلاح هيكلي أو إنتاجي—مؤكداً أن استمرار هذه المقامرة بمستقبل الأجيال القادمة سيقود حتماً إلى كارثة محققة.
التقرير كشف عن أرقام مرعبة تضع مصر في قائمة "الأكثر خطورة" عالمياً، حيث تلتهم خدمة الدين وحدها نصف عائدات الدولة من العملة الصعبة تقريباً، ما يعني عملياً رهن القرار السيادي والاقتصادي للدائنين، وترك المواطن المصري يواجه الجوع والغلاء منفرداً.
أرقام الكارثة: عندما يصبح التصدير لسداد الديون فقط
أخطر ما كشفه التقرير هو تصنيف مصر ضمن أكثر خمس دول في العالم من حيث نسبة مدفوعات خدمة الدين إلى الصادرات، والتي بلغت نحو 49%. هذا الرقم يعني ببساطة أن نصف ما تنتجه مصر وتصدره للعالم لا يعود عليها بنفع، بل يذهب فوراً لسداد فوائد وأقساط قروض أنفقها النظام في مشاريع "الفنكوش" الخرسانية. كما وصلت نسبة الدين الخارجي إلى الصادرات لـ 233%، وهي نسبة تعكس إفلاساً مقنعاً.
وفي هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الخالق فاروق، أن هذه المؤشرات تؤكد ما حذر منه طويلاً، وهو أن النظام أدخل البلاد في "دائرة جهنمية" من الديون، حيث يقترض لسداد ديون قديمة وليس للاستثمار. ويشير فاروق إلى أن تجاوز خدمة الدين لهذا الحاجز المخيف يعني أن الدولة فقدت السيطرة على ميزانيتها، وأن أي حديث عن "تنمية" في ظل هذه الأرقام هو "تدليس إعلامي"، لأن الموارد مستنزفة بالكامل لصالح الدائنين.
"مغامرة المجازفة بالمستقبل".. اقتصاد بلا إنتاج
انتقد البنك الدولي ما وصفه بـ"مغامرة المجازفة بالمستقبل"، مشيراً إلى غياب الإصلاحات الهيكلية الحقيقية. النظام الحالي استسهل الاقتراض بدلاً من عناء بناء مصانع أو زراعة أراضٍ تنتج غذاءً حقيقياً، مما جعل الاقتصاد هشاً ومعرضاً للانهيار مع أي صدمة خارجية.
وهو ما يتفق معه تماماً الخبير الاقتصادي هاني توفيق، الذي طالما انتقد "أولويات الإنفاق" لدى الحكومة. يؤكد توفيق أن الاعتماد على "الأموال الساخنة" والقروض لبناء أصول لا تدر عائداً دولارياً (مثل الطرق والقصور) هو انتحار اقتصادي. ويرى أن الحل الوحيد كان ولا يزال هو "الإنتاج والتصدير"، لكن النظام فضل الحلول السهلة التي ورطت البلاد في ديون لا طاقة لها بها، محولاً الاقتصاد إلى "اقتصاد ريعي" ينتظر المعونات والقروض ليعيش يوماً بيوم.
من جانبه، يضيف ممدوح الولي، الخبير الاقتصادي ونقيب الصحفيين الأسبق، أن خطورة الوضع الحالي تكمن في "توريق المستقبل"، حيث يتم بيع أصول الدولة السيادية لسداد فوائد الديون، مشيراً إلى أن الأرقام التي ذكرها البنك الدولي تعني أن الحكومة الحالية قد "أكلت" حقوق الأجيال القادمة مقدماً، وتركت لهم تركة ثقيلة من الديون والتبعية.
الاختناق الاجتماعي.. الشعب يدفع فاتورة الفشل
النتيجة الحتمية لهذه السياسات هي ما يعيشه المواطن اليوم من تضخم غير مسبوق وتآكل للقوة الشرائية. فمع ذهاب نصف الحصيلة الدولارية لسداد الديون، تعجز الدولة عن استيراد السلع الأساسية ومستلزمات الإنتاج، مما يؤدي لركود تضخمي وارتفاع جنوني في الأسعار.
تؤكد الدكتورة علياء المهدي، العميدة السابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أن استمرار هذا النهج سيقود إلى "انفجار اجتماعي" نتيجة الضغوط المعيشية. وتشير المهدي إلى أن الاعتماد على الجباية والضرائب والاقتراض لتعويض فشل السياسات الإنتاجية أدى إلى سحق الطبقة المتوسطة وتوسيع رقعة الفقر، محذرة من أن تجاهل هذه المؤشرات الخطيرة والمضي قدماً في نفس السياسات هو "إصرار على الخطأ" سيدفع ثمنه الجميع، وليس النظام وحده.
إن تحذيرات البنك الدولي ليست مجرد تقرير روتيني، بل هي جرس إنذار أخير قبل الارتطام الكبير، في ظل نظام يبدو أنه لا يجيد سوى "شراء الوقت" بمزيد من الديون.

