في اعتراف رسمي نادر يحمل بين سطوره إدانة واضحة لسياسات الدولة، كشف الدكتور محمد الطيب، المسؤول بوزارة الصحة، أن واحدًا من كل خمسة مواطنين في البلاد يعاني من أعراض نفسية تستدعي الدعم والعلاج. هذا الرقم الصادم، الذي يعادل نحو 25 مليون مصري، ليس مجرد إحصاء صحي، بل شهادة موثقة على الانهيار الاجتماعي والنفسي الذي يعيشه المجتمع تحت وطأة سياسات قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي الأمنية والاقتصادية، التي حوّلت المواطن إلى ضحية مستمرة للغلاء والقمع وانسداد الأفق.
اقتصاد يدهس الطبقات ويفتت العائلات
الأزمة لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج مباشر لسنوات من السياسات التي أفقرت ملايين المصريين. فمنذ عام 2016، حين بدأت الحكومة تطبيق شروط صندوق النقد الدولي، تآكلت الطبقة الوسطى وانهارت القدرة الشرائية لمعظم الأسر. ومع موجات التضخم ورفع الدعم وفرض الضرائب المتكررة، تحوّل البقاء الاقتصادي إلى معركة يومية من أجل الغذاء والدواء والمسكن.
تربط دراسات عدة بين الضغوط الاقتصادية وتفاقم الاضطرابات النفسية، إذ يؤدي الإحباط المزمن والعجز عن تلبية الاحتياجات الأساسية إلى الاكتئاب والقلق واضطرابات النوم والانتحار. وفي مصر، أصبح هذا المشهد هو القاعدة لا الاستثناء؛ فالمواطن الذي لا يملك سوى القليل يخشى الغد أكثر مما يحلم به.
القمع الأمني وتآكل الأمان الاجتماعي
في موازاة الانهيار الاقتصادي، يعيش المصريون حالة من الخوف المستمر بفعل القبضة الأمنية الثقيلة. فبينما تملأ أجهزة الأمن السجون بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين، تُترك الشوارع فريسة لتجار المخدرات والعنف المجتمعي.
تحوّلت البلاد إلى ما يشبه “غابة مكتومة”، حيث يُكبت التعبير وتُخنق المعارضة، ويُسمح للعنف بالتسرّب إلى تفاصيل الحياة اليومية. وبحسب مراقبين، فإن النظام يوظّف هذا الاضطراب الاجتماعي كأداة لتفريغ الغضب الشعبي وتوجيهه بعيدًا عن مصدره الحقيقي، ليبقى المواطن في دائرة مغلقة من القمع والإدمان واليأس.
الصحة النفسية.. ترفٌ لا يملكه الفقراء
ورغم أن تصريح وزارة الصحة كشف عمق الأزمة، فإن رد فعل الحكومة جاء مدهشًا في قسوته. فبدلًا من توسيع خدمات الدعم النفسي وتقديم العلاج مجانًا للفقراء، قررت الوزارة رفع أسعار العلاج في المستشفيات النفسية الحكومية بنسب وصلت إلى 900%، ما يعني عمليًا طرد الملايين من منظومة العلاج وتحويل المرض النفسي إلى “سلعة للأغنياء فقط”.
بهذا القرار، أغلقت الدولة آخر أبواب الأمل أمام فئة هي الأكثر هشاشة، ودفعت بآلاف المرضى إلى الشوارع دون علاج، ليصبحوا قنابل موقوتة داخل مجتمع يزداد احتقانًا. وتُظهر تقارير محلية تزايدًا مقلقًا في معدلات الانتحار والجريمة والعنف الأسري خلال العامين الماضيين، في مؤشر على تفاقم الانهيار النفسي الجمعي.
السجون... جرح مفتوح في الجسد الوطني
داخل السجون، يبدو المشهد أكثر قسوة. فالمعتقلون السياسيون يعيشون في ظروف غير إنسانية، بلا تهوية أو رعاية طبية، بينما تتواتر شهادات عن حالات انتحار وتعذيب نفسي وجسدي ممنهج. هذه الوقائع تكشف أن النظام لا يكتفي بتجاهل الصحة النفسية، بل يسهم بفعالية في تدميرها المتعمد لمن يجرؤ على معارضته.
انهيار الأمن القومي النفسي
تصريح الدكتور الطيب لم يكن مجرد ملاحظة طبية، بل إعلان رسمي عن انهيار الأمن القومي النفسي للمصريين. فالحكومة التي أوصلت ربع شعبها إلى المرض النفسي عبر سياسات الإفقار والتخويف، لا يمكن أن تكون جزءًا من الحل.
تحولت مصر، في عهد السيسي، إلى ما يشبه مصنعًا مفتوحًا لإنتاج الأمراض النفسية، حيث يتقاطع الفقر مع القمع، ويُترك المواطن بين خيارين: الصمت أو الانكسار. وبينما تواصل السلطة تجاهل جذور الأزمة، يظل المجتمع المصري ينزف بصمت، في انتظار لحظة وعيٍ قد تُعيد الاعتبار للإنسان قبل الدولة.