أثار لقاء حسين الشيخ، نائب الرئيس الفلسطيني وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، برئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في العاصمة الأردنية عمّان، موجة عارمة من الغضب في الشارع الفلسطيني. اللقاء الذي جرى في 12 أكتوبر 2025، ووُصف رسميًا بأنه “جزء من التحركات الدبلوماسية لبحث ترتيبات اليوم التالي للحرب في غزة”، بدا في نظر منتقديه خطوة جديدة نحو الارتهان السياسي للغرب، وإعادة إنتاج نهج التنسيق الأمني بغطاء جديد عنوانه “السلام الدائم”.

ورغم ترويج السلطة الفلسطينية للقاء على أنه “جهد دبلوماسي لحماية الثوابت”، إلا أن كثيرين رأوا فيه فصلًا جديدًا من الالتفاف على الإرادة الشعبية وتجاهلًا لدماء آلاف الشهداء الذين سقطوا في العدوان الأخير على غزة. فالحديث عن “سلام دائم” بوساطة توني بلير – أحد أبرز رموز الغزو والهيمنة في الشرق الأوسط – بدا بالنسبة للفلسطينيين استفزازًا فجًّا ومهينًا لتاريخ نضالهم ومعاناتهم.
 

مشروع اليوم التالي.. بوابة لعودة مشروطة إلى غزة
اللقاء جاء ضمن خطة أمريكية جديدة يقودها دونالد ترامب، تقضي بإنشاء “مجلس سلام” برئاسته، يكون فيه توني بلير أحد المنسقين الرئيسيين لمشروع “السلطة الانتقالية الدولية” لإدارة قطاع غزة بعد الحرب، تحت شعار إعادة الإعمار ووقف إطلاق النار. ووفق التسريبات، فإن الهدف هو إعادة إدخال السلطة الفلسطينية إلى القطاع، ولكن فقط بعد تنفيذ “إصلاحات” سياسية وأمنية ترضي واشنطن وتل أبيب، وتحوّل السلطة إلى جهاز إداري منزوع الإرادة الوطنية.

في هذا السياق، أعلن حسين الشيخ “استعداد السلطة الكامل للتعاون مع ترامب وبلير”، متحدثًا عن إدخال المساعدات، وتبادل الأسرى، وإعادة إعمار غزة. لكنه تجاهل تمامًا أن مثل هذا التعاون يعني عمليًا القبول بإشراف غربي مباشر على مستقبل القطاع. بالنسبة لمنتقديه، لم تكن تلك التصريحات سوى استجداء لدور شكلي في مشهدٍ تُكتب تفاصيله في واشنطن وتل أبيب، وليس في رام الله أو غزة.
 

عودة بلير.. ذاكرة الخداع والدم
المفارقة أن توني بلير، الذي يعود اليوم إلى المشهد الفلسطيني، لم يغادره يومًا. فبلير الذي روّج لغزو العراق عام 2003 وساهم في تدمير المنطقة، شغل لاحقًا موقع مبعوث اللجنة الرباعية الدولية للسلام، دون أن يحقق أي اختراق حقيقي في مسار التسوية. بل إن فترة وجوده تلك شهدت اتساع الاستيطان الإسرائيلي وتعمّق الانقسام الفلسطيني.

إعادة بلير اليوم إلى واجهة الملف الفلسطيني ليست مبادرة سلام، بل استدعاء لرمز الهيمنة الغربية، ومحاولة لتجميل مشروع وصاية دولية على غزة، يُدار بأيدٍ بريطانية وأمريكية، وتُنفّذ بنكهة فلسطينية رسمية. وهو ما يراه كثير من المراقبين إهانة لتضحيات الشعب الفلسطيني، ورسالة واضحة بأن مصير القطاع يُقرَّر في الخارج دون مشاركة فعلية من أبنائه.
 

خيانة للشرعية الشعبية وتكريس للانقسام
تُتهم منظمة التحرير، عبر هذا المسار، بأنها تجاوزت حدود تمثيلها الوطني. فبعد أكثر من 18 عامًا على فقدانها السيطرة على غزة، لم تجرِ انتخابات حقيقية تعيد تجديد شرعيتها. ورغم ذلك، يصرّ قادتها على التحدث باسم الفلسطينيين كافة، متجاهلين الفصائل المقاومة التي واجهت العدوان الإسرائيلي الأخير.

يرى معارضون أن تحركات حسين الشيخ تمثل “قفزة في الفراغ السياسي والأخلاقي”، إذ تسعى القيادة في رام الله إلى العودة إلى غزة عبر بوابة أمريكية-بريطانية، لا عبر مصالحة وطنية حقيقية. هذه العودة، إن تمت، ستكون مشروطة بإصلاحات تُفرغ السلطة من مضمونها الوطني المقاوم، وتحولها إلى مقاول أمني يدير القطاع بما يخدم “أمن إسرائيل” تحت عنوان “الاستقرار”.
 

أزمة قيادة أم نهاية الدور الوطني؟
الأخطر أن هذه التحركات تجري في ظل تجاهلٍ تام لموقف الحكومة الإسرائيلية التي ترفض أصلًا عودة السلطة إلى غزة. ما يجعل اللقاء مع بلير أقرب إلى مسرحية سياسية تهدف إلى إبقاء السلطة في دائرة الضوء بعد أن فقدت معظم تأثيرها الميداني.

في المحصلة، يبدو لقاء حسين الشيخ وتوني بلير تجسيدًا لأزمة القيادة الفلسطينية التي لم تعد ترى في العمل الوطني سوى فرصة للبقاء في المشهد السياسي، ولو بثمن التنازل عن القرار الفلسطيني المستقل. لقاء كهذا لا يمثل بحثًا عن سلامٍ أو إعمار، بل بحثًا عن مقعد في نظام إقليمي يعيد ترتيب المنطقة على حساب القضية الفلسطينية.

وبينما تتحدث البيانات الرسمية عن “الحفاظ على حل الدولتين”، يرى الفلسطينيون على الأرض أن ما يُطبخ في الغرف المغلقة ليس سوى طبعة جديدة من أوسلو، تُدار بوجوه مختلفة، وتُفضي إلى النتيجة ذاتها: سلطة بلا سيادة، وشعب يُطالَب بالصمت مقابل “إعمار مشروط”.