في مفارقة تثير التساؤلات أكثر مما تستدعي التهاني، فازت مصر بعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للفترة من 2026 إلى 2028، بعد حصولها على 173 صوتًا في الانتخابات التي جرت بالجمعية العامة في 14 أكتوبر 2025. وبينما احتفت الحكومة المصرية بهذا الفوز بوصفه “انتصارًا دبلوماسيًا” و”شهادة دولية” على تحسّن سجلها الحقوقي، رأت منظمات حقوقية محلية ودولية أن الخطوة تمثل “مكافأة على القمع”، وتكشف عن ازدواجية المجتمع الدولي في التعامل مع الدول المنتهكة لحقوق الإنسان.
احتفاء رسمي... وتجميل للواقع
لم تتأخر الحكومة في توظيف الحدث سياسيًا، إذ اعتبرت وزارة الخارجية أن الفوز يعكس “الثقة الدولية في الدور المصري بمجال حقوق الإنسان”، مشيرة إلى ما وصفته بـ “جهود الدولة في حماية الحريات الأساسية”.
وحرصت التصريحات الرسمية على التذكير بسلسلة من المبادرات الحكومية مثل:
- الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أُطلقت عام 2021، والتي تقول السلطات إنها تمثل خريطة طريق لإصلاح المنظومة الحقوقية.
- تطوير منظومة العدالة الجنائية عبر تحديث مراكز “الإصلاح والتأهيل”.
- برامج الحماية الاجتماعية وتمكين المرأة باعتبارها ركائز لتحسين حقوق المواطن.
لكن خلف هذا الخطاب المتفائل، يختبئ واقع مغاير تصفه المنظمات المستقلة بأنه “قمع ممنهج” و”تجميل متقن لوجه النظام”.
منظمات حقوقية: “مفارقة مؤلمة”
ردود الفعل الحقوقية جاءت غاضبة. فقد أصدرت 12 منظمة مصرية مستقلة تقريرًا مشتركًا أواخر عام 2024 أكدت فيه أن أزمة حقوق الإنسان في مصر لم تشهد أي انفراجة، بل تدهورت بصورة ممنهجة خلال السنوات الخمس الماضية. التقرير وصف فوز القاهرة بعضوية المجلس بأنه “مفارقة مؤلمة”، متسائلًا: كيف تجلس دولة على مقعد الحكم الدولي في ملفٍ هي أحد أبرز منتهكيه؟
وأبرزت المنظمات جملة من الانتهاكات المستمرة:
- القمع السياسي: استمرار الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري بحق معارضين وصحفيين ونشطاء، وتضييق الخناق على المجتمع المدني.
- التعذيب وسوء المعاملة: تقارير أممية ومحلية توثق حالات متكررة داخل السجون ومراكز الاحتجاز، وسط غياب للمساءلة.
- الانتخابات الأخيرة: شهدت انتخابات 2024 انتهاكات واسعة للحق في الترشح والتعبير والتجمع السلمي.
- المبادرات الشكلية: وصفت منظمات حقوقية مبادرات مثل “الحوار الوطني” و”لجنة العفو الرئاسي” بأنها أدوات تجميلية تهدف إلى امتصاص الضغوط الخارجية دون تغيير فعلي في السياسات القمعية.
تقرير أممي صدر في أغسطس 2024 أشار إلى أن القاهرة لم تنفذ أيًّا من التوصيات الـ375 التي تلقتها خلال الاستعراض الدوري الشامل في 2019، بل “توسعت في الممارسات التي وُصفت حينها بانتهاكات جسيمة”.
انقسام داخلي وصمت دولي
في الداخل، حاول بعض الأصوات الرسمية تقديم الفوز كـ“مسؤولية أخلاقية” تستوجب إصلاحات حقيقية. فقد قال النائب فريدي البياضي إن عضوية المجلس “تضع على عاتق الحكومة التزامًا إضافيًا بتحسين الواقع الحقوقي”، بينما رأت أستاذة العلوم السياسية نهى بكر أن الفوز “يعكس ثقة المجتمع الدولي” رغم اعترافها بضرورة “مواصلة الجهود”.
لكنّ مراقبين يرون أن المجتمع الدولي هو من فقد مصداقيته، حين سمح بعودة دول تُتّهم بانتهاك الحقوق الأساسية إلى مؤسسات يفترض أن تحاسبها. فعضوية مصر، بحسب وصف منظمة “هيومن رايتس ووتش”، هي “إخفاق للمجلس في حماية مصداقيته”، ورسالة مفادها أن “التحالفات السياسية أقوى من مبادئ العدالة”.
فوز لا يعني البراءة
بين الخطاب الرسمي الذي يحتفي بـ“الإنجاز”، والتقارير الحقوقية التي تتحدث عن “منظومة قمع”، يتكشف مشهد متناقض يعكس عمق الأزمة الحقوقية في مصر. فالفوز بمقعد داخل مجلس حقوق الإنسان لا يغيّر حقيقة أن السجون لا تزال مكتظة بآلاف المعتقلين، وأن حرية الرأي والتعبير محاصرة بقوانين قمعية، وأن الإصلاح الحقوقي ما زال حبرًا على ورق.
وفي النهاية، قد يكون فوز مصر بعضوية المجلس مناسبة لتذكير الحكومة بأن الشرعية الحقوقية لا تُكتسب بالأصوات في الأمم المتحدة، بل تُنتزع من الواقع الذي يعيشه المواطنون داخل حدودها. فبين “الاستراتيجية الوطنية” و“الانتهاكات اليومية” يقف سجلٌّ مثقل بالوعود المعلّقة والوجع الإنساني الذي لا تغطيه بيانات الدبلوماسية الرسمية.