في مفارقة صارخة، بينما يئن المواطن المصري تحت وطأة اقتصاد منهار وديون متفاقمة، يتلقى نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي سلسلة من "المكافآت" الدولية التي تبدو وكأنها احتفاء بنجاحات غير موجودة على الأرض. فمن رئاسة اليونسكو إلى مقعد في مجلس حقوق الإنسان، مرورًا بإشادات صندوق النقد، يرسم المجتمع الدولي صورة وردية لنظام تتناقض إنجازاته المزعومة مع الواقع المرير الذي يعيشه المصريون. هذا التكريم المتتالي يطرح سؤالاً ملحًا: هل يكافئ العالم السيسي على إدارته الداخلية الفاشلة، أم على أدوار أخرى خفية يلعبها في المنطقة، وتحديداً في ملف غزة؟
سيل من المناصب في زمن الانهيار
تجسدت أولى هذه المكافآت في 6 أكتوبر 2025، مع انتخاب وزير السياحة والآثار الأسبق، خالد العناني، مديرًا عامًا لمنظمة اليونسكو، ليصبح أول مصري وعربي يشغل هذا المنصب. ويأتي هذا التتويج رغم الانتقادات الموجهة لسياسات النظام في التعامل مع التاريخ والآثار، والتي يعتبرها البعض تدميرًا ممنهجًا للتراث.
لم تتوقف "الهدايا" عند هذا الحد، ففي 12 أكتوبر 2025، تسلمت مصر رسميًا رئاسة المنظمة الدولية للتقييس (ISO) لمدة ثلاث سنوات (2026-2028). تبدو هذه الرئاسة ساخرة في ظل نظام لا يعير اهتمامًا لدراسات الجدوى والجودة، وهو ما يتجلى في فشل مشاريعه الكبرى التي روج لها إعلامه، وعلى رأسها مشروع استصلاح المليون ونصف المليون فدان الذي تحول إلى سراب، والمدن الجديدة التي بنيت كقلاع معزولة للأغنياء، بينما يرزح ملايين الفقراء في عشوائيات تفتقر لأبسط الخدمات.
المفارقة الأكبر جاءت في 14 أكتوبر 2025، حين فازت مصر بمقعد في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للفترة من 2026 إلى 2028. يأتي هذا الفوز في وقت تمتلئ فيه السجون المصرية بعشرات الآلاف من معتقلي الرأي، وتُقمع فيه الحريات بشكل ممنهج، وتصدر المنظمات الحقوقية الدولية تقارير متتالية توثق "الجرائم" التي يرتكبها النظام بحق مواطنيه.
تكتمل الصورة بإشادة صندوق النقد الدولي، الذي تبنى "نظرة إيجابية" لأداء الاقتصاد المصري في تقريره الصادر في 13 أكتوبر 2025 ، واعدًا بتقديم المزيد من الدعم المالي. هذه الإشادة تتجاهل حقيقة أن ديون مصر الخارجية قفزت إلى مستويات قياسية، وأن قيمة الجنيه تنهار، وأن سياسات الصندوق نفسه هي التي أدت إلى موجات غلاء طاحنة، وسط حديث عن عسكرة الاقتصاد وسيطرة المؤسسة العسكرية على مفاصله.
الثمن السري: حصار غزة وتجويعها
لماذا إذن كل هذا الدعم لنظام فاشل اقتصاديًا وقمعي سياسيًا؟ الإجابة تكمن في الدور الوظيفي الذي يلعبه النظام المصري في خدمة الأجندات الدولية بالمنطقة، وتحديداً دوره في "زفة السلام المزعوم" في غزة. فبينما يروج النظام لنفسه كوسيط نزيه وداعم للقضية الفلسطينية، تشير الوقائع إلى أنه يلعب دور الحارس الأمين للأمن الإسرائيلي، ويشارك بفعالية في تشديد الحصار على قطاع غزة وتجويع أهله، وهو ما ينفيه السيسي رسميًا.
إن تصريحات السيسي المتكررة، مثل تلك الصادرة في 11 أكتوبر 2025، والتي تدعو لنشر قوات دولية في غزة ، تُقرأ في سياق رغبة دولية في تكريس فصل القطاع وتصفية قضيته، وليس في سياق حماية الفلسطينيين. يبدو أن النظام المصري يقدم خدمات جليلة للمجتمع الدولي عبر ضمان احتواء المقاومة الفلسطينية ومنع أي تهديد حقيقي لأمن إسرائيل، مقابل غض الطرف عن انتهاكاته الداخلية ومنحه شرعية دولية زائفة عبر هذه المناصب.
في النهاية، هذه المكافآت الدولية ليست إلا ثمنًا بخسًا يدفعه العالم لنظام السيسي مقابل خدماته الجيوسياسية. إنها رشوة سياسية مقنعة، تشتري صمت النظام وتعاونه في ملفات حساسة، بينما يتم التضحية بحقوق الشعب المصري ومستقبله. فالعالم الذي يكافئ مصر بمقعد في مجلس حقوق الإنسان هو نفسه الذي يصم أذنيه عن صرخات المعتقلين، والذي يشيد باقتصادها هو نفسه الذي يبارك سياسات إفقارها. إنها مقايضة واضحة: الأمن مقابل الحقوق، والاستقرار الإقليمي المزعوم مقابل العدالة الغائبة.