في ظل منظومة زراعية عشوائية تديرها حكومة غائبة عن الواقع، تحول موسم حصاد البطاطس في مصر من عيد للفلاح إلى مأتم اقتصادي. فبدلًا من مكافأة المزارع المصري الذي استجاب لتوجيهات الدولة وحقق "معجزة إنتاجية" ووفرة غير مسبوقة، وجد نفسه ضحية لسياسات حكومية فاشلة تركته فريسة لآليات السوق المتوحشة.

 

اليوم، يبيع الفلاح محصوله بأقل من نصف تكلفته الحقيقية، في مشهد عبثي يؤكد أن هذه السلطة لا تمتلك أي رؤية لحماية الأمن الغذائي أو دعم المنتج المحلي، بل تكتفي بدور "المشاهد" بينما يغرق الفلاحون في مستنقع الديون، مهددة بانهيار زراعة أحد أهم المحاصيل الاستراتيجية في البلاد.

 

حصاد الخسارة: الفلاح يبيع "بنصف التكلفة"

 

تكشف الأرقام الكارثية التي أعلنها نقيب الفلاحين، حسين عبد الرحمن أبو صدام، عن حجم المأساة التي يعيشها القطاع الزراعي. فبينما تتجاوز تكلفة إنتاج كيلو البطاطس 4 جنيهات (شاملة التقاوي المستوردة باهظة الثمن، الأسمدة التي تضاعفت أسعارها، والعمالة والإيجارات)، يجد المزارع نفسه مضطرًا لبيعه في الحقل بسعر مهين لا يتجاوز 2 جنيه .

 

هذه الفجوة السعرية القاتلة تعني أن الفلاح يخسر جنيهين في كل كيلو ينتجه، أي أنه يدفع من جيبه ثمن زراعته لأرضه! إنها جريمة اقتصادية مكتملة الأركان، حيث يُعاقب المنتج الحقيقي على كفاءته، ويُترك وحيدًا ليتحمل فاتورة التضخم وارتفاع مدخلات الإنتاج، بينما تقف وزارة الزراعة عاجزة عن توفير أي شبكة حماية أو سعر ضمان يقي المزارع شر الإفلاس.

 

فوضى التخطيط: وفرة بلا تسويق

 

تتجلى سذاجة الإدارة الحكومية للملف الزراعي في تحول "زيادة الإنتاج" من نعمة إلى نقمة. فالأسباب التي أدت إلى هذه الوفرة – من اعتدال المناخ، وتوسع المزارعين في المساحات، واستخدام تقنيات حديثة – كان يجب أن تكون مدعاة للفخر ومناسبة لتعزيز الصادرات وجلب العملة الصعبة .

 

لكن، في غياب أي خطط تسويقية مدروسة أو استراتيجية تصديرية واضحة من قبل الدولة، أغرق المعروض السوق المحلي، فانهارت الأسعار. الحكومة التي تشجع الفلاح على الزراعة، تتنصل منه لحظة الحصاد، فلا هي فتحت أسواقًا جديدة، ولا هي وفرت آليات لتصنيع الفائض، ولا هي تدخلت لشراء المحصول بسعر عادل يحفظ للفلاح كرامته ويضمن استمراريته.

 

العزوف القادم: تهديد الأمن الغذائي

 

إن النتيجة الحتمية لهذه السياسات "العمياء" بدأت تلوح في الأفق؛ حالة من العزوف الجماعي تضرب المزارعين مع انطلاق العروة الصيفية.

 

التقارير تشير بوضوح إلى انخفاض حاد في كميات التقاوي المحجوزة بالجمعيات الزراعية، خوفًا من تكرار سيناريو الخسارة .

 

هذا العزوف يعني ببساطة انخفاض المساحات المزروعة في المواسم القادمة، وهو ما سيؤدي حتمًا إلى "شح" في المحصول وارتفاع جنوني في الأسعار مستقبلاً، ليدفع المستهلك الثمن بعد أن دفع المنتج الثمن اليوم.

 

إنها دورة الفشل الجهنمية التي تديرها الحكومة: تترك الفلاح يخسر اليوم، ليجوع المواطن غدًا، دون أي تدخل لكسر هذه الدائرة المفرغة.

 

نداءات في الفراغ

 

رغم صرخات الاستغاثة التي أطلقها نقيب الفلاحين ومطالباته بضرورة التدخل العاجل لإنقاذ الموسم، لا يبدو أن هناك "حياة لمن تنادي". السلطة مشغولة بمشاريعها الخرسانية، بينما يواجه عماد الاقتصاد الحقيقي خطر الاندثار.

 

إن استمرار تجاهل هذه الكارثة ليس مجرد إهمال، بل هو تخريب متعمد لأحد أهم قطاعات الإنتاج، ودفع متعمد للفلاحين نحو هجر أراضيهم، مما يهدد الأمن الغذائي المصري في مقتل.

 

الخلاصة: ما يحدث في حقول البطاطس اليوم هو نموذج مصغر لفشل الدولة في إدارة مواردها. حكومة لا تستطيع حماية مزارعيها من "وفرة الخير"، هي حكومة لا تستحق البقاء، لأنها حولت "الذهب الأصفر" إلى تراب، وجعلت من الزراعة أقصر طريق للديون والسجن.