في تطور سياسي لافت يحمل دلالات خطيرة على تآكل الأرضية التي يقف عليها النظام الحالي، خرج الدبلوماسي المخضرم والأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، بتصريحات نارية تمس العصب الحساس للسلطة في مصر.
موسى، الذي لا يُحسب على المعارضة الراديكالية، وجد نفسه مضطرًا للإقرار بالواقع المأزوم، مؤكدًا أن إعادة الانتخابات باتت "ضرورة سياسية ووطنية" لا مفر منها.
هذه الدعوة ليست مجرد نصيحة عابرة، بل هي "إعلان وفاة" لشرعية المجالس المنتخبة (النواب والشيوخ) التي هندستها الأجهزة الأمنية، واعتراف ضمني بأن المسار السياسي الحالي وصل إلى طريق مسدود، وأن استمرار "مسرحية" المؤسسات الصورية بات يهدد استقرار الدولة برمتها.
شهادة من "داعمي السيسي": المجالس المشكوك فيها "قصيرة العمر"
تكتسب تصريحات موسى خطورتها من كونها صادرة عن شخصية وازنة تدرك معادلات الحكم جيدًا. فعندما يصف المجالس الحالية بأنها "مشكوك فيها" ويؤكد أن عمرها "قصير"، فهو يوجه طعنة مباشرة في قلب السردية التي يروج لها النظام حول "الاستقرار المؤسسي" .
إن حديث موسى يمثل تعرية كاملة لعملية "هندسة البرلمان" التي أقصت القوى الحية، وهمشت المعارضة، وأنتجت مجالس "موافقون" لا تعبر عن نبض الشارع ولا تملك قرارها. لقد تحولت المؤسسة التشريعية في عهد الانقلاب إلى مجرد "سكرتارية" لتمرير القوانين وتبييض القرارات الرئاسية، مما خلق فجوة سحيقة بين المواطن وبين من يفترض أنهم يمثلونه، وهي الفجوة التي يحذر موسى من أنها قد تبتلع الجميع إذا لم يتم تداركها بخطوات تصحيحية جذرية.
أزمة ثقة أم "أزمة شرعية"؟
لم يستخدم موسى لغة دبلوماسية مواربة حين حذر من أن "استمرار هذه المجالس يفاقم أزمة الثقة". في القاموس السياسي، "أزمة الثقة" مع المؤسسات المنتخبة تعني ببساطة "سقوط الشرعية". النظام الذي يعتمد على انتخابات معلبة، تغيب عنها التنافسية الحقيقية وتتحكم فيها المال السياسي والتدخلات الأمنية، ينتهي به المطاف بمؤسسات هشة لا تستند إلى أي ظهير شعبي حقيقي .
إن دعوة موسى لإعادة الانتخابات هي اعتراف بأن ما جرى لم يكن انتخابات بل "تعيينات مقنعة"، وأن المخرج الوحيد من حالة الاحتقان السياسي المكتوم هو العودة إلى الصندوق الحقيقي، الصندوق الذي يعبر عن إرادة الناخبين وليس إرادة "ضابط الاتصال".
روشتة الإنقاذ الأخيرة: شفافية غائبة وتوافق مفقود
يضع موسى النظام أمام خيارات صعبة ومحددة: إما الاستمرار في سياسة العناد والإنكار التي ستقود حتمًا للانفجار، وإما الرضوخ لـ "الخيار الواقعي" المتمثل في إعادة بناء المشهد السياسي على أسس سليمة. شدد موسى على ضرورة توفير "ضمانات قوية للشفافية والرقابة"، في إشارة ضمنية إلى غياب هذه المعايير في الاستحقاقات السابقة التي شابتها اتهامات واسعة بالتزوير والتوجيه .
كما أن مطالبته بـ "توافق وطني واسع" تكشف عن حجم الانقسام والاستقطاب الذي كرسه النظام الحالي بسياساته الإقصائية. فمصر اليوم تفتقد لأدنى درجات الحوار الوطني الحقيقي، وتعيش حالة من التصحر السياسي لم تشهدها حتى في أحلك فترات الاستبداد السابقة.
هل يسمع النظام؟
إن خروج شخصية بحجم عمرو موسى بهذه التصريحات في هذا التوقيت الحساس يعكس استشعارًا عميقًا بالخطر من قبل نخب كانت قريبة من دوائر الحكم. يبدو أن الجميع بات يدرك أن سفينة الوطن تجنح نحو المجهول في ظل إدارة تفتقر للكفاءة السياسية وتعتمد الحلول الأمنية فقط.
لكن السؤال الأهم: هل يمتلك هذا النظام الرغبة أو القدرة على سماع صوت العقل؟ التجارب السابقة تؤكد أن السلطة الحالية لا ترى في أي نقد إلا "مؤامرة"، ولا ترى في أي دعوة للإصلاح إلا "تهديدًا". ومع ذلك، تظل شهادة موسى وثيقة تاريخية تؤكد أن "شرعية الانقلاب" قد سقطت أخلاقيًا وسياسيًا، وأن محاولات ترميمها بمجالس كرتونية لن تصمد طويلًا أمام حقائق الواقع المرير.

