لم تكد تنطوي صفحات عام 2025، حتى عاد الكابوس القديم الجديد ليقض مضاجع المصريين؛ إذ شهد سعر الدولار قفزة مفاجئة أمام الجنيه، كشفت هشاشة "الاستقرار المزعوم" الذي تغنت به حكومة الانقلاب طوال الأشهر الماضية.
ومع تسجيل الدولار في البنك المركزي 47.52 جنيه للشراء و47.66 جنيه للبيع، وفي البنوك التجارية الكبرى مثل "الأهلي" و"مصر" مستويات 47.64 جنيه للبيع، يظهر بوضوح أن ما سُمي بـ"تحرير سعر الصرف" لم يكن سوى غطاء لسياسات فاشلة تعتمد على "التسول المقنع" عبر آلية الأموال الساخنة، بدلاً من بناء اقتصاد إنتاجي حقيقي.
تحاول المصادر المصرفية التابعة للنظام تبرير هذا الارتفاع بأنه "حركة طبيعية للعرض والطلب" ناتجة عن إقفال المراكز المالية للشركات وخروج جزئي للمستثمرين الأجانب، مروجين لأوهام بأن الدولار سيهبط دون الـ 47 جنيهاً في العام المقبل.
إلا أن هذه التطمينات تصطدم بواقع مرير وأرقام كارثية تكشف أن النظام يستنزف موارد البلاد في دورة مفرغة من الديون لسداد ديون سابقة، تاركاً المواطن فريسة للغلاء والفقر.
أكذوبة "تحسن المؤشرات".. ومسكنات الفشل الإداري
وفي تفنيد لهذه السياسات، يرى الخبراء أن الانخفاض السابق للدولار كان "وهمياً" ومصطنعاً بقرارات إدارية لا تعكس قوة الاقتصاد. وفي هذا السياق، شن الخبير الاقتصادي الدكتور عبد النبي عبد المطلب هجوماً لاذعاً على السياسة النقدية الحالية، مؤكداً أن الحديث عن وجود "سوق صرف حقيقي" هو محض خيال.
وأوضح عبد المطلب أن "عدم قدرة المواطن على تدبير العملة الصعبة بحرية يعني ببساطة عدم وجود سوق، وأن ما نراه هو تسعير جبري من البنك المركزي لا علاقة له بأساسيات الاقتصاد من تضخم وفائدة".
وأضاف أن المواطن لن يشعر بأي تحسن طالما أن الحكومة تستمر في سياسة "الجباية" برفع أسعار الغاز والكهرباء والرسوم، مشدداً على أن التحسن الحقيقي يتطلب نمواً يتجاوز 9% وتضخماً دون الـ 10%، وهو ما فشلت الحكومة في تحقيقه، حيث لا تزال الأسعار تنهش في دخول المصريين رغم المزاعم بتراجع الدولار.
ومن جانبها، انضمت الدكتورة سالي صلاح، الخبيرة الاقتصادية والأكاديمية، إلى طابور المحذرين، واصفة ما يحدث بأنه "عملية تجميل لجثة هامدة". وقالت صلاح في تصريحات خاصة: "إن الحكومة تحتفي بتدفقات دولارية هي في الحقيقة ديون جديدة ستدفع ثمنها الأجيال القادمة.
الارتفاع المفاجئ للدولار في نهاية 2025 هو رسالة إنذار بأن المسكنات انتهى مفعولها. النظام يبني احتياطياته من الرمال المتحركة للأموال الساخنة، بينما القاعدة الصناعية تتآكل والقدرة الشرائية للمواطن في الحضيض. نحن أمام إدارة تفتقر لأبجديات الرؤية الاقتصادية وتدير الدولة بمنطق المحاسب الذي يخفي الخسائر بترحيلها".
قنبلة الـ 41 مليار دولار.. رهان الخاسرين
الخطر الأكبر الذي يهدد بانهيار وشيك للجنيه يكمن في الاعتماد المفرط على "الأموال الساخنة" التي بلغت مستويات قياسية ومرعبة تقدر بـ 41 مليار دولار.
هذا الرقم الذي تفاخرت به الحكومة كدليل ثقة، وصفته الدكتورة علياء المهدي، العميدة السابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بأنه "أمر مقلق للغاية"، مؤكدة أن الصعود الأخير للجنيه لم يكن له أي مبرر موضوعي في ظل عجز الميزان التجاري وركود الصادرات.
وتوقعت المهدي "هروباً مفاجئاً" لهذه الأموال في أي لحظة، مما سيعيد الدولار للتحليق لمستويات قياسية، وهو السيناريو الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق الآن.
وبلغة الأرقام الصادمة، كشف الخبير الاقتصادي هاني توفيق عن الكارثة التي تعيشها مصادر الدخل القومي، حيث انهار دخل قناة السويس بنسبة 61% ليسجل 3.99 مليار دولار فقط، وهو رقم هزيل يعكس الفشل في إدارة الأزمات الجيوسياسية والاقتصادية.
وأشار توفيق إلى أن الصادرات البترولية لم تتجاوز 1.18 مليار دولار، بينما تحويلات المصريين والسياحة لا تكفي لسد الفجوة التمويلية الضخمة، منتقداً بشدة استسهال الحكومة للاقتراض الساخن بدلاً من جذب الاستثمار المباشر الذي يخلق فرص عمل حقيقية.
الفشل السياسي يُغرق الاقتصاد.. "عسكرة الفقر"
لم يكن الانهيار الاقتصادي بمعزل عن الفساد السياسي وغياب الرؤية الاستراتيجية. وفي تعليقه على المشهد، أكد الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية، أن الأزمة ليست فنية بل "بنيوية سياسية" في المقام الأول.
وقال عبد الفتاح: "إن نظام الانقلاب لا يملك مشروعاً تنموياً، بل يملك مشروعاً للهيمنة والنهب. ما نراه من تقلبات في سعر الصرف هو نتيجة حتمية لعسكرة الاقتصاد واحتكار المؤسسة العسكرية للمفاصل الحيوية، مما طرد الاستثمار الحقيقي وأبقى الساحة للمضاربين وتجار الديون".
وأضاف عبد الفتاح: "الحديث عن تعويم أو تحرير سعر صرف في ظل غياب الشفافية والرقابة البرلمانية الحقيقية هو عبث. النظام يمارس (إرهاباً اقتصادياً) ضد المواطن عبر رفع الدعم وزيادة الضرائب لتغطية فشله في إدارة موارد الدولة.
إن انخفاض إيرادات قناة السويس بهذا الشكل الكارثي، وتراجع الإنتاجية، يؤكد أننا أمام سلطة لا تجيد سوى الجباية والاستدانة، وأن العام 2026 قد يحمل سيناريوهات أكثر قتامة إذا استمرت هذه السياسات التي تراهن على بيع أصول الدولة ورهن قرارها السيادي للدائنين".
في الختام، يبدو أن حكومة الانقلاب تودع عام 2025 بكشف حساب "أحمر"، حيث الدولار يرتفع، والديون تتراكم، والمواطن يدفع الفاتورة من قوت يومه، بانتظار المجهول في ظل سلطة أدمنت الحلول السهلة والمدمرة.

