في مشهد عبثي يلخص حالة "العداء المكتوم" لمظاهر التدين في الفضاء العام، انتفضت وزارة الأوقاف المصرية بسرعة البرق، ليس لنصرة قضية شرعية أو إعمار بيت من بيوت الله، بل لإسكات صوت القرآن الكريم عبر مكبرات الصوت. القرار جاء استجابةً لشكوى "فردية" من مواطن عبر منصات التواصل، تذمر فيها من إذاعة القرآن قبل الصلاة، لتتلقف الوزارة هذه "الوشاية" وتعتبرها ذريعة لتجديد تعميماتها الصارمة بحظر استخدام مكبرات الصوت إلا للأذان وخطبة الجمعة، مهددة المخالفين بإجراءات عقابية.

 

هذه الاستجابة "الصاروخية" لشكوى ضد القرآن تفتح باب التساؤلات المشروعة حول أولويات الوزارة: لماذا تصاب أجهزة الدولة بالصمم التام أمام ضجيج الحفلات الصاخبة، ومكبرات الأعراس التي تهز الأحياء السكنية حتى الفجر، وأصوات المعدات في المشاريع التي لا تتوقف، بينما تستيقظ حواسها الأمنية والرقابية فجأة وفقط عندما يتعلق الأمر بصوت قارئ يتلو آيات من الذكر الحكيم؟ إن ما يحدث يتجاوز مجرد تنظيم إداري؛ إنه تكريس لسياسة "تجفيف المنابع الروحية" وتحويل المساجد من منارات تصدح بالذكر إلى مبانٍ صامتة ومراقبة، لا يُسمح لها بالحديث إلا في "الأوقات الرسمية" وبالقدر الذي تسمح به السلطة.

 

"فوبيا" الميكروفون.. هل بات القرآن "تلوثاً سمعياً" في الجمهورية الجديدة؟

 

تتعامل وزارة الأوقاف مع مكبرات الصوت في المساجد وكأنها "أسلحة دمار شامل" يجب تحجيمها، متبنية سردية علمانية فجة تصنف تلاوة القرآن والابتهالات ضمن خانة "التلوث السمعي". هذا المنطق المعوج يتجاهل حقيقة راسخة في الوجدان المصري؛ وهي أن صوت التواشيح وقرآن الفجر ومقراة العصر هي جزء أصيل من "الهوية السمعية" للمحروسة، وليست ضوضاء دخيلة.

 

الخطير في الأمر هو تحويل "الاستثناء" إلى "قاعدة". فبدلاً من معالجة حالة فردية لمسجد قد يكون بالغ في رفع الصوت، أصدرت الوزارة فرماناً جماعياً يعاقب جميع المساجد ويحرم ملايين المصريين من الروحانيات التي اعتادوا عليها، خاصة في القرى والأحياء الشعبية حيث يمثل الميكروفون رابطاً اجتماعياً وروحياً. إن وصف صوت القرآن بـ"الإزعاج" في بلد الأزهر الشريف هو سابقة خطيرة، تعكس تغلغل نخبة إدارية لا ترى في الدين إلا "وظيفة حكومية" يجب تأديتها في أضيق الحدود، وتنزعج من أي مظهر ديني يفرض نفسه على الفضاء العام خارج سيطرة "الورقة والقلم".

 

ازدواجية "الفوضى والضبط".. صمت القبور للمساجد وصخب المهرجانات للشوارع

 

لو كانت الوزارة – والدولة من خلفها – جادة حقاً في محاربة التلوث السمعي، لرأينا حملات مشابهة ضد مكبرات الصوت التي تنصب في الشوارع للمناسبات الخاصة، أو ضد "التكاتك" التي تجوب الحواري بأغاني المهرجانات الهابطة، أو حتى ضد ضوضاء الإنشاءات التي لا تراعِ راحة مريض أو طالب. لكن الواقع يكشف عن ازدواجية مقيتة: "الميكروفون" حلال ومباح ومسكوت عنه طالما يغني للترفيه أو يروج لمشروعات النظام، لكنه يصبح "جريمة" و"إزعاجاً" وتعدياً على الحريات إذا صدح بـ "الله أكبر" أو تلا آيات من سورة "الرحمن".

 

هذه الانتقائية الفجة تؤكد أن الهدف ليس "راحة المواطن" كما يزعمون، بل "تدجين المجال العام". السلطة تريد شارعاً "مودرن" بمواصفات غربية، صاخباً بالحفلات والفعاليات، وصامتاً تماماً دينياً. إنها عملية "هندسة اجتماعية" قسرية، تُستخدم فيها وزارة الأوقاف كـ"شرطي مرور" ينظم حركة التدين ويمنع "التكدس الروحي"، محولاً المساجد إلى مؤسسات بيروقراطية باردة، تفتح وتغلق بالدقيقة والثانية، وتُمنع فيها أي اجتهادات قد تجذب قلوب الناس، حتى لو كانت مجرد تلاوة خاشعة قبل الأذان.

 

وزارة "التقارير الأمنية".. الأوقاف من "الدعوة" إلى "الوصاية"

 

تثبت هذه الواقعة مجدداً أن وزارة الأوقاف تخلت عن دورها "الدعوي" لصالح دور "أمني ورقابي". الوزارة التي يفترض بها أن تكون حامية للمساجد وحريصة على تعلق الناس بها، باتت هي الخصم الأول للإمام والمصلين. فبدلاً من أن تدافع الوزارة عن حق المساجد في بث السكينة، سارعت لتبني وجهة نظر "المشتكي" وتعميمها، في سلوك يشبه سلوك "المخبر" الذي ينتظر أي زلة لكتابة تقرير.

 

لقد تحول وزير الأوقاف وجهازه الإداري إلى "مدراء صمت"، مهمتهم الأولى هي ضمان ألا يخرج من المسجد أي صوت غير مصرح به. هذه السياسة التي بدأت بتوحيد الخطبة (الورقة الموحدة)، ومرت بمنع الاعتكاف وتقليص صلاة التراويح والتهجد في سنوات سابقة، تصل اليوم إلى ملاحقة "التلاوة" نفسها. إنها رسالة واضحة بأن الوزارة لا تثق في الشارع، وتخاف من تأثير "الكلمة المسموعة"، ولذلك تسعى لقطع الطريق على أي تواصل صوتي بين المسجد ومحيطه، محولة بيوت الله إلى "جزر منعزلة" معزولة صوتياً وشعورياً عن المجتمع، في انتظار قرار جديد قد يمنع الأذان نفسه بدعوى أنه يوقظ السياح!