في خطوة جديدة تعزز مخاوف "تسليع التاريخ"، تتجه السلطات المصرية لبيع "المتحف الجيولوجي" بالمعادي، أقدم متحف من نوعه في الشرق الأوسط (تأسس 1901)، لتحويله إلى مشروع فندقي ومجمع كافيتريات. القرار الذي يجري تداوله في أروقة الوزارات المعنية لا يمثل مجرد استثمار عقاري لموقع متميز على النيل، بل يُعد – وفقاً لخبراء – ضربة قاصمة للبحث العلمي وتجريفاً لذاكرة مصر الطبيعية لصالح "سبوبة" تجارية سريعة.

 

جناية "تسليع" العلم: فندق بدلاً من المتحف


المخطط المطروح يستهدف إخلاء المبنى العريق من محتوياته النادرة – التي تضم حفريات وديناصورات لا تقدر بثمن – لتسليم الموقع لمستثمرين. هذه النظرة القاصرة التي تختزل قيمة المؤسسات في "سعر المتر" تثير فزع المجتمع الأثري. وفي هذا السياق، يرى الدكتور خالد سعد، الخبير الأثري، أن التعامل مع المتاحف يجب أن يخرج من دائرة الحسابات المالية الضيقة، مشيراً إلى أن المتاحف هي "منارات تعليمية ومؤسسات تنويرية وليست مجرد مخازن". ويحذر سعد من أن تحويل وظيفة هذه المؤسسات لأغراض ترفيهية هو تفريغ لمضمون الدولة الحضاري، فمصر التي تتباهى أمام العالم بتاريخها لا ينبغي أن تناقض ذلك بقرارات داخلية تحول صروحها العلمية إلى فنادق.
 

 

وعلى المنوال نفسه، تأتي تحذيرات الدكتورة مونيكا حنا، عالمة المصريات وعميدة كلية الآثار والتراث الحضاري، التي ترى أن الكارثة لا تتوقف عند بيع المبنى، بل تمتد إلى "تفكيك السياق المعرفي". تؤكد حنا في انتقاداتها المستمرة لسياسات التعامل مع التراث أن إخراج القطع من سياقها المتحفي الأصلي وتشتيتها هو "طمس للهوية" لا يقل خطورة عن السرقة، مشيرة إلى أن الحجج القديمة للتطوير تتهاوى أمام واقع يتم فيه التفريط في المتاحف الوطنية وتحويلها لمشاريع استهلاكية.

 

"أرض فضاء" في نظر النظام: هوس الاستثمار العقاري

 

التعامل مع متحف الجيولوجيا كأصل عقاري قابل للبيع يعكس نهجاً أوسع بات يحكم إدارة أصول الدولة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت "الربح السريع". يعلق الدكتور مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية، بحدة على منطق الخصخصة الذي يغزو قطاع التراث، مؤكداً أنه "لا يمكن قبول التعامل مع التراث بمنطق الربح والخسارة فقط". ويشدد الكسباني على أن تحويل المباني ذات القيمة التاريخية والرمزية إلى منشآت تجارية بحتة هو "تشويه للذاكرة العمرانية"، محذراً من أن تمرير مثل هذه القرارات دون دراسة كل حالة على حدة يفتح الباب أمام المزيد من العبث بمقدرات الأمة تحت لافتة الاستثمار.

 

مصير "مجهول" للكنوز: المخازن مقبرة التاريخ

 

أخطر ما في المخطط هو مصير المقتنيات الجيولوجية النادرة التي قد تنتهي مكدسة في مخازن غير مجهزة، معرضة للتلف والسرقة، كما حدث في وقائع سابقة. هنا يدق الدكتور عبد الرحيم ريحان، خبير الآثار، ناقوس الخطر، واصفاً الحلول التي تطرحها الحكومة عادة للنقل أو التخزين بأنها "حلول مؤقتة غير مجدية". ويؤكد ريحان أن استمرار مسلسل التفريط في الأصول التراثية واستغلالها تجارياً بشكل فج "يهدد بضياع كنوز لا تعوض"، مطالباً بوقفة جادة لإصلاح منظومة حماية التراث بدلاً من تركه فريسة لتقلبات السوق واحتياجات الموازنة.

 

تدمير ممنهج للذاكرة: القانون غائب

 

المشهد العام لا يبدو عشوائياً، بل نمطاً متكرراً طال مقابر القاهرة التاريخية وحدائق تراثية، والآن يمتد للمتاحف النوعية. هذا التدمير الممنهج رصده المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الذي يضم فريقاً قانونياً للدفاع عن التراث، حيث أكد في بيانات سابقة حول وقائع مماثلة أن ما يحدث هو "مخالفة صريحة للدستور" الذي يلزم الدولة بحماية الآثار. ويرى المركز أن الحكومة تزعم التطوير تارة والترميم تارة أخرى، لكن الواقع على الأرض هو "محو للتاريخ" لصالح أنشطة استثمارية، مما يعد اعتداءً على حق الأجيال القادمة في معرفة تراثها.

 

بيع متحف الجيولوجيا ليس مجرد صفقة، بل هو إعلان رمزي عن سقوط "حرمة العلم" أمام "سطوة المال"، ليتحول تاريخ الأرض المصرية إلى مجرد "خلفية ديكور" في فندق جديد.