لم يعد البحث عن شقة إيجار في المحافظات مجرد خطوة عابرة في مسار الاستقرار الأسري، بل تحوّل إلى معركة يومية تهدد الإحساس بالأمان ذاته. بين عقود لا تُجدد، وأسعار تقفز بلا سقف، وقانون يفتح الباب واسعاً لقوى السوق، تتبدل حياة آلاف الأسر، وتتغير معها ملامح أحياء كاملة في القاهرة والمحافظات.
يقول خالد، مهندس البرمجيات في مطلع الثلاثينيات، وهو يحزم أمتعته استعداداً لمغادرة شقته في التجمع الخامس بشرق القاهرة: “الإيجار ارتفع من 8 آلاف إلى 14 ألف جنيه خلال عام واحد. العقد انتهى، والمالك قرر ألا يجدد. القانون في صفه، أما نحن فسنبحث عن مأوى جديد قبل أن نجد أنفسنا على الأرصفة”.
قصة خالد ليست استثناءً، بل باتت نموذجاً متكرراً في ظل موجة غير مسبوقة من ارتفاع الإيجارات، تفوق قدرة غالبية المستأجرين على الاحتمال.
قفزات سعرية بلا ضوابط
تشير بيانات مجمعة من مكاتب العقارات ومنصات الإعلانات الإلكترونية خلال الربع الثالث من عام 2025 إلى أن الشقق ذات الغرفتين في الأحياء الراقية بالقاهرة – مثل مصر الجديدة، المعادي، التجمعات، والشيخ زايد – تتراوح إيجاراتها بين 18 و35 ألف جنيه شهرياً.
وفي الأحياء المتوسطة، مثل حدائق القبة والأميرية والمعصرة، وصلت الإيجارات إلى ما بين 8 و14 ألف جنيه، بينما لم تسلم المناطق الشعبية من موجة الغلاء، إذ تراوح الإيجار في المطرية وعين شمس والمرج وشبرا الخيمة بين 4 و7 آلاف جنيه للشقة المتوسطة.
وتتزامن هذه الزيادات مع تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع معدلات التضخم، في وقت تجاوز فيه سعر الدولار 47.60 جنيهاً، ما انعكس على تكاليف البناء والصيانة، ودفع الملاك إلى تعظيم العائد من وحداتهم.
تشريع جديد… وأزمة قديمة
في سبتمبر الماضي، وافق مجلس النواب على تعديلات قانون الإيجار القديم، التي تمنح مستأجري الوحدات السكنية الخاضعة له مهلة انتقالية مدتها سبع سنوات قبل الإخلاء، وخمس سنوات للمحال التجارية.
ورغم أن الهدف المعلن هو إعادة تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، فإن هذه التعديلات أسهمت – بحسب خبراء – في دفع أعداد من المستأجرين إلى الخروج من العقود القديمة والانتقال إلى سوق الإيجارات الجديدة، ما زاد الضغط على المعروض المحدود ورفع الأسعار بشكل حاد.
حكايات الرحيل القسري
في الإسكندرية، اضطرت سلمى أيوب، معلمة في الثامنة والثلاثين من عمرها، إلى مغادرة شقتها في حي سموحة بعد أن قرر المالك رفع الإيجار من 7500 إلى 16 ألف جنيه. تقول “قال لي إن السوق هو من يحدد السعر، وإن لم يعجبني فعليّ المغادرة. راتبي وراتب زوجي لا يسمحان بشراء شقة، وبعد شهرين من البحث انتهى بنا الحال في منطقة بعيدة. ساعتان يومياً في المواصلات، وحياة بلا جذور”.
أما محمد فتحي، الطبيب الشاب، فيصف تجربته مع الإيجار بأنها “حياة مؤقتة بلا استقرار”: “كل عقد يعني بداية من الصفر. بعد سنتين أو ثلاث، أبحث من جديد، وأدفع زيادة جديدة، وتكاليف نقل ورسوم. لا أشعر أن لي بيتاً”. ويطالب بوضع سقف للزيادات الإيجارية، مرتبط بمؤشر التضخم ونمو الأجور، بما يحقق قدراً من العدالة بين الطرفين.
الملاك بين الاستثمار والضمير
على الجانب الآخر، يبرر بعض الملاك هذه الزيادات بارتفاع تكاليف الصيانة ومواد البناء. يقول المهندس خالد الطويل، مالك ثلاث شقق في وسط الإسكندرية: “العقار استثمار. إذا تركت الإيجار أقل من سعر السوق فأنا أخسر. الصيانة والضرائب ارتفعت، ولا يمكن تجاهل ذلك”.
لكن أصواتاً أخرى بين الملاك تتبنى موقفاً أكثر توازناً. تقول توحيدة راشد، مالكة شقة في أبي قير: “أستطيع رفع الإيجار، لكن ضميري لا يسمح. المستأجرة أرملة ولديها أبناء. اتفقنا على زيادة معقولة تكفي للصيانة دون تحميلهم ما لا يطيقون”.
خبراء: المشكلة أعمق من الأسعار
يرى المهندس ناجي البرديسي، مدير الإدارة الهندسية في إحدى شركات الاستثمار العقاري، أن الأزمة نتاج تراكم سنوات من غياب التنظيم، مؤكداً أن الحل لا يقتصر على ضبط الإيجارات، بل يتطلب تحفيز بناء وحدات للإيجار المتوسط والمنخفض، وتقديم حوافز ضريبية للمطورين الذين يخصصون جزءاً من مشروعاتهم للإيجار طويل الأجل.
ويؤكد عضو مجلس النواب حسن خير الله أن أي تدخل تشريعي يجب أن يوازن بين حقوق الملاك وحماية المستأجرين، مشيراً إلى أن القيود المشددة على البناء وارتفاع أسعار الأراضي أسهما في نقص المعروض وارتفاع الأسعار بأكثر من 60% في بعض المناطق.
آثار اجتماعية مقلقة
تحذر الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، من أن استمرار هذا الوضع يهدد النسيج الاجتماعي: “عندما تُطرد الأسر من أحيائها، نفقد الاستقرار والتنوع الطبقي. تتحول المناطق إلى جيوب مغلقة، ما يخلق توترات اجتماعية ويعمّق الفوارق”.
وتشير إلى أن تداعيات الأزمة تمتد إلى التعليم والصحة والحياة الأسرية، مع ارتفاع الضغط النفسي، وزيادة الكثافة السكنية، والهجرة الداخلية نحو الضواحي، وما يصاحبها من توسع عشوائي وأزمات مواصلات وخدمات.

