منذ أن حولت ثورة الاتصالات العالم إلى قرية صغيرة عبر الأقمار الصناعية، فقد رمضان، شهر القرآن والروحانية، مكانته في العديد من البيوت. تحول هذا الشهر المبارك إلى موسم لمشاهدة المسلسلات الفاضحة والبرامج السطحية التي يبدو أنها جزء من حملة ممنهجة لصرف الناس عن العبادة. في هذا الشهر، تنهال على المشاهدين موجة من الدراما الساخنة والإعلانات المثيرة التي تمحو بركات رمضان وتستبدلها بسيل من الذنوب.
أصبحت المسلسلات الفاضحة والإعلانات المستفزة، التي تنتجها شركات سعودية وإماراتية وتبثها قنوات عربية، السمة الأبرز لرمضان. لا تهتم هذه القنوات إلا بجذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين، حيث يجد الشخص نفسه عالقًا في دوامة لا تنتهي من الإعلانات، التي تتنوع بين عروض الفلل الفاخرة والشاليهات الساحلية الباهظة، والإعلانات العاطفية للمشاريع الخيرية التي يروج لها المشاهير.
هذا التناقض الصارخ بين الترف المطلق والفقر المدقع يخلق حالة من الارتباك لدى المشاهدين، حيث يجري التلاعب بمشاعرهم من خلال الترويج لنمط حياة فاره، بينما تُعرض عليهم في الوقت نفسه مشاهد عن الفقراء والمحتاجين. ومع استمرار هذا التدفق الإعلاني طوال عرض المسلسلات، أصبحت الفواصل التجارية طويلة لدرجة أنها تكاد تضاهي مدة العرض نفسه.
غياب المحتوى الديني والتاريخي وعودة "معاوية"
اختفت المسلسلات الدينية والتاريخية من المشهد الرمضاني منذ أكثر من عقد، ولكن هذا العام، قررت السعودية عرض مسلسل معاوية بعد أن كان قد أُوقف بثه قبل عامين بسبب اعتراض الحكومة العراقية الشيعية، التي هددت آنذاك بالتصعيد في حال عرضه، كما وعدت بإنتاج مسلسل عن أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل الخليفة عمر بن الخطاب.
لا يُعرف تحديدًا ما الذي تغير ليسمح بعرض المسلسل هذا العام، لكن النتيجة كانت إثارة الجدل والانقسام بين العلماء والنقاد والجماهير. فقد أثارت اختلافات الروايات حول الأحداث التاريخية الشكوك حول دقة المسلسل، خاصة فيما يتعلق بالصراع بين معاوية وعلي بن أبي طالب، مما أدى إلى اتهامات بتشويه الحقائق لأغراض سياسية.
كما أن العمل نفسه تعرض لانتقادات فنية حادة، حيث وُصف بأنه ضعيف من حيث السيناريو، وأداء الممثلين، والإخراج، فضلاً عن افتقاره إلى مشاهد معارك ملحمية رغم أن ميزانيته المعلنة بلغت 100 مليون دولار، وهو رقم غير مسبوق في الإنتاج الدرامي العربي.
تشويه للتاريخ أم تلميع سياسي؟
المسلسل لم يقدم سيرة دقيقة لمعاوية بن أبي سفيان، بل رسم صورة مشوهة بناءً على رؤية كتابه، الذين أطلقوا العنان لخيالهم وأعادوا كتابة التاريخ بطريقة تخدم أجنداتهم. وبالإضافة إلى الأخطاء التاريخية الجسيمة، فإن القفزات الزمنية التي أغفلت أحداثًا مفصلية في حياة معاوية تعد "جريمة إبداعية"، لأنها شوهت السياق العام. فعلى سبيل المثال، لم يُخصص سوى إشارات عابرة لمعركتي بدر وأحد، رغم أهميتهما في فهم مسيرة معاوية التاريخية.
ومما زاد الطين بلة أن ملامح الممثل الذي يؤدي دور معاوية بدت مشابهة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن المسلسل يحمل رسالة سياسية تهدف إلى تقديم "محمد بن سلمان" كقائد عظيم، في مقابل تصوير خصومه على أنهم أشخاص تحكمهم العواطف.
تأثير سلبي على روحانية رمضان
بغض النظر عن النوايا الكامنة وراء إنتاج هذا العمل، فإن هذه النوعية من المسلسلات ليست مناسبة لشهر رمضان، الذي يفترض أن يكون فرصة للتجديد الروحي والتقرب إلى الله. لكن الواقع أن المحتوى التلفزيوني بات يلعب دورًا رئيسيًا في إبعاد الناس عن روحانية الشهر الفضيل، مما يحوّله من شهر عبادة إلى موسم استهلاكي تهيمن عليه الدراما والإعلانات المبالغ فيها.