تشهد مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور كارثة إنسانية مروعة، راح ضحيتها حتى الآن 239 طفلًا منذ بداية عام 2024 وحتى نهاية يونيو، نتيجة سوء تغذية حاد، وانعدام شبه تام في الأدوية والرعاية الصحية، وسط حصار خانق تفرضه قوات "الدعم السريع" على المدينة، في مشهد يعيد إلى الأذهان أكثر صور المجاعة وحشيةً في التاريخ.

وقد كشفت شبكة أطباء السودان هذه الأرقام المفجعة، محذّرة من أن المدينة أصبحت بؤرة لمأساة إنسانية تتسع يومًا بعد يوم، في ظل انهيار كامل للبنية التحتية الصحية والغذائية، وغياب مطبق لأي استجابة دولية فعالة. ووصفت الشبكة هذا الصمت العالمي بأنه "عار أخلاقي سيبقى محفورًا في ضمير الإنسانية".

 

أجساد ذابلة وأرواح بريئة تُزهق

ليست هذه الأرقام مجرد إحصاءات تقرأ في تقارير طبية أو أممية؛ بل هي مآسي متكررة خلف كل رقم، تمثل طفلًا لم يجد حليبًا، وأمًا أنهكها العجز والانتظار، ومشفىً خاوٍ من الدواء، وثلاجةً متهالكة لا تحفظ سوى أرواح تنتظر الموت.

في شوارع الفاشر اليوم، تتكدس القصص البائسة، من أطفال يتغذّون على أوراق الأشجار، إلى أُسر بأكملها تقضي ليلها في العراء هربًا من القذائف، فلا الغذاء متاح، ولا الدواء موجود، ولا حتى الأمل.

 

الإمارات والدعم المليشياوي: جذور المأساة

رغم أن الأزمة تبدو في ظاهرها إنسانية، فإن أصابع الاتهام تمتد خارج حدود السودان. فقد وُثّق في تقارير دولية وإفادات حقوقية متواترة دور الإمارات العربية المتحدة في تمويل وتسليح وتدريب قوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، التي تفرض الحصار على الفاشر.

وتتهم منظمات دولية أبو ظبي بإرسال طائرات مسيّرة وذخائر متطورة عبر وسطاء في ليبيا وتشاد وأريتريا، ما منح قوات حميدتي تفوقًا ميدانيًا في دارفور، وساهم في خنق المناطق المحاصرة مثل الفاشر. وتشير صور أقمار صناعية إلى نشاط عسكري غير مسبوق في مناطق يُشتبه في تلقيها دعمًا إماراتيًا.

هذا التدخل، كما تشير تقارير، حوّل المجاعة إلى سلاح، والمساعدات الإنسانية إلى رهائن سياسية، تُستخدم كورقة تفاوض في صراع دموي يفتك بالمدنيين الأبرياء.

 

حصار يطوق الأنفاس.. واستهداف مباشر للإغاثة

لم تتوقف المأساة عند انعدام الغذاء والدواء، بل طالت حتى قوافل المساعدات التي حاولت اختراق الحصار. فقد تعرضت قافلة إنسانية في طريقها إلى الفاشر لهجوم في مدينة "الكومة"، أسفر عن مقتل خمسة أشخاص وإحراق عدد من الشاحنات، في رسالة صريحة من قوى الحرب: لا مكان للإنسانية في هذه المعركة.

تُعد هذه الحادثة واحدة من عشرات الهجمات الموثّقة على شاحنات إغاثة ومراكز توزيع غذائي، في محاولة لتحويل الأزمة إلى وسيلة لإخضاع المدنيين وإجبارهم على الاستسلام.

 

نداءات بلا مجيب: الأمم المتحدة تكتفي بالشجب

رغم حجم الكارثة، اكتفت المؤسسات الدولية بإصدار بيانات إدانة وشجب، دون اتخاذ أي خطوات عملية لوقف نزيف الأرواح. منظمة "يونيسف"، وبرنامج الغذاء العالمي، وحتى الأمم المتحدة نفسها، لم تتمكن من فتح ممرات إنسانية آمنة.

وتحت ضغط أممي، أعلن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان موافقته على هدنة إنسانية مؤقتة لسبعة أيام، دون أن تلقى هذه المبادرة أي تجاوب فعلي من قوات الدعم السريع، التي التزمت الصمت، مكتفية بتصريحات غامضة.

 

مجاعة وشيكة ونزوح جماعي

تشير تقديرات وكالات الإغاثة إلى أن مدينة الفاشر، التي كانت يومًا مركزًا إداريًا واقتصاديًا لإقليم دارفور، أصبحت اليوم على حافة المجاعة الكاملة. إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة تجاوزت 400%، فيما يُباع الوقود بأسعار فلكية إن وُجد، أما الأدوية فغابت تمامًا.

كما أن النزوح الجماعي بات حقيقة على الأرض، حيث تجاوز عدد النازحين داخليًا وخارجيًا 15 مليون شخص منذ اندلاع الصراع، وفق إحصاءات الأمم المتحدة. ومع تواصل الحصار والقصف، تتجه الأعداد للارتفاع في ظل غياب أي أفق للحل.

 

دارفور.. ذاكرة الإبادة تتجدد

المشهد في الفاشر اليوم يعيد إلى الأذهان مذابح دارفور التي هزّت الضمير العالمي في العقد الأول من الألفية. لكن ما يجري اليوم يتم بصمت أكثر وقاحة، وغطاء سياسي أقوى، مع تواطؤ دول إقليمية على رأسها الإمارات، وعجز دولي يكاد يكون متعمّدًا.

فيما يموت الأطفال جوعًا، ويهيم السكان على وجوههم في الصحراء، تتسابق عواصم العالم لعقد مؤتمرات دعم لفظي، بينما لا تصل شاحنة واحدة من الدواء.