في خطوة أثارت موجة واسعة من الانتقادات، أصدر وزير الداخلية بحكومة الانقلاب محمود توفيق قرارًا بإنشاء سجن جديد تحت مسمى “مركز إصلاح وتأهيل أبي زعبل 4”. القرار الذي جاء في وقت تتفاقم فيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، يعكس بوضوح أولويات النظام الحالي الذي يبدو أكثر اهتمامًا بتوسيع بنيته القمعية على حساب مشاريع التنمية والإصلاح الحقيقية. فبدلًا من بناء المصانع والمدارس والمستشفيات، تتجه الدولة إلى بناء مزيد من الجدران والأسوار، في مشهد يختزل كيف تتحول مصر تدريجيًا إلى “سجن كبير” يعيش المواطن داخله في خوف وضيق وقيود متزايدة.
صناعة السجون: استثمار في القمع لا في الإنسان
بينما تتراجع القطاعات الإنتاجية وتتآكل القدرة الشرائية للمصريين، تزدهر “صناعة السجون” كواحدة من أكثر القطاعات نشاطًا في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي. فخلال السنوات الأخيرة، شهدت مصر طفرة غير مسبوقة في بناء أماكن الاحتجاز. ففي عام 2021 وحده، صدر قرار بإنشاء سبعة سجون مركزية جديدة، تلاها خمسة “مراكز إصلاح” في العام التالي، ثم ستة سجون دفعة واحدة في مدينة 15 مايو بالقاهرة في يونيو 2023.
تشير تقارير حقوقية إلى أن مصر بنت 44 سجنًا جديدًا بين عامي 2011 و2021، ليصل العدد الإجمالي إلى نحو 87 سجنًا رسميًا، إضافة إلى ما يقارب 168 منشأة احتجاز تشمل أقسام الشرطة ومراكز الترحيلات. ورغم هذا التوسع المفرط، ما تزال السجون تعاني اكتظاظًا مروعًا، إذ بلغت نسبة الإشغال عام 2020 نحو 207%، فيما قدر عدد السجناء بنحو 120 ألف شخص في عام 2022، بينهم أكثر من ثلث المحتجزين دون محاكمة. هذه الأرقام تكشف عن واقع مرير لدولة تُبنى فيها الزنازين بوتيرة تفوق بناء المدارس والمستشفيات.
“مراكز الإصلاح والتأهيل”: تجميل لغوي لقبح الواقع
لمواجهة الانتقادات الدولية المتزايدة، لجأت الحكومة في عام 2022 إلى تغيير مسمى “السجون” إلى “مراكز الإصلاح والتأهيل المجتمعي”. هذا التحول اللغوي جاء مصحوبًا بحملات إعلامية تتحدث عن “برامج تعليمية وتأهيلية للنزلاء”، لكن الوقائع على الأرض تكذب تلك المزاعم.
اختيار منطقة أبو زعبل لإنشاء السجن الجديد يحمل دلالة رمزية قاتمة. فالمنطقة ذاتها ارتبطت تاريخيًا بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أبرزها “مجزرة سيارة الترحيلات” عام 2013 التي راح ضحيتها 38 معتقلًا اختناقًا. ومع ذلك، تواصل السلطات استخدامها كرمز لهيمنة القبضة الأمنية. إن تغيير الاسم لا يغير من جوهر السياسة القائمة على الإقصاء والترويع، ولا يلغي الطبيعة العقابية التي تميز تلك المرافق. فالتسمية الجديدة ليست سوى محاولة فاشلة لتسويق صورة وردية أمام المجتمع الدولي تخفي وراءها استمرار التعذيب وسوء المعاملة والاحتجاز التعسفي.
أولويات مقلوبة: السجون قبل المستشفيات والمصانع
في بلد يعاني أكثر من 70% من سكانه من الفقر وارتفاعًا غير مسبوق في الأسعار والبطالة، تبدو المفارقة صارخة حين يُعلن عن مشروعات ضخمة لبناء سجون حديثة بمليارات الجنيهات، بينما تتأخر خطط تطوير المستشفيات والمدارس. فبينما تفخر الحكومة بإنجاز مجمع سجون وادي النطرون الذي يوصف بأنه “الأكبر في تاريخ مصر” بطاقة استيعابية تفوق 20 ألف سجين، لا تزال آلاف القرى تفتقر إلى خدمات الصرف الصحي والرعاية الصحية والتعليم الجيد.
ورغم إعلان الحكومة عن نيتها استكمال بناء 20 مستشفى في عام 2025 بتكلفة 11.7 مليار جنيه، وافتتاح 1500 مصنع جديد في عام 2021، فإن وتيرة بناء السجون تفوقت على أي مشروع تنموي آخر. فالنظام يجد في بناء السجون وسيلة أسرع لـ"ضبط الداخل" بدلًا من معالجة أزماته عبر الإصلاح الاقتصادي أو العدالة الاجتماعية.
“أبو زعبل 4”.. عنوان دولة تخاف من شعبها
قرار إنشاء سجن “أبو زعبل 4” ليس مجرد إجراء إداري، بل هو مرآة لسياسة دولة تخاف من مواطنيها أكثر مما تخاف من الفقر أو الفساد. فبدلًا من الاستثمار في الإنسان وتعزيز حرياته وقدراته، تُضخ المليارات في مشاريع تُرسخ ثقافة الخوف والقهر. ومع كل سجن جديد، يتضح أن النظام لا يسعى إلى “إصلاح وتأهيل” أحد، بل إلى إدامة السيطرة وشراء الوقت عبر بناء مزيد من الأسوار الحديدية حول وطن بات يحتاج إلى حرية أكثر من أي شيء آخر.
إن مصر التي تحتاج اليوم إلى مدارس تُفتح ومستشفيات تُبنى ومصانع تُشغل، تجد نفسها عالقة في مشروع سياسي لا يؤمن إلا بالسجن كحل، وبالقمع كأداة لإدارة الأزمات. وما “أبو زعبل 4” إلا فصل جديد في رواية نظام اختار أن يحكم بالخوف بدلًا من الثقة، وبالقيود بدلًا من الأمل.