في الأشهر الأخيرة، تفاقمت شكاوى المستثمرين ورواد الأعمال في مصر، خاصة العاملين في قطاع الشركات الناشئة، بسبب ما وصفوه بـ"ملاحقات أمنية متكررة" تحت ذريعة حيازة أو التعامل بالدولار والعملات الأجنبية خارج القنوات الرسمية.

ورغم أن سلطات الانقلاب كانت قد أعلنت عن القضاء على السوق السوداء للعملات منذ اتفاقها الأخير مع صندوق النقد الدولي في مارس 2024، فإن الممارسات الأمنية على الأرض تشير إلى استمرار حالة الشك والتوجس تجاه التعاملات النقدية داخل قطاعات واسعة من الاقتصاد غير التقليدي.

أفاد عدد من أصحاب الشركات الناشئة بأن بعض التوقيفات تمت داخل مقار شركاتهم، وأخرى أثناء تعاملهم المباشر مع البنوك أو عند استلام تحويلات نقدية من الخارج، وهي الممارسات التي باتت تُصنَّف في بعض الحالات تحت بند "الاتجار غير المشروع في العملة".
 

تجريم التعاملات الرسمية.. حتى مع البنوك!
   
تعاني الشركات الناشئة في مصر من أزمة سيولة حادة وتراكم ديون، مما يضعها على حافة الانهيار، ووفقًا لمركز "إنسان للإعلام"، فإن 85% من هذه الشركات معرضة للفشل خلال عام بسبب الأزمة الاقتصادية وندرة التمويل.

رجل أعمال شاب، طلب عدم ذكر اسمه، أكد في تصريحات لموقع متخصص في الاقتصاد الرقمي أنه "تم توقيف أحد موظفيه أثناء خروجه من أحد البنوك حاملاً مبلغًا محولًا بالدولار من شركة شريكة بالخارج، رغم أن العملية تمت بشكل رسمي موثق".

وأضاف: "الأجهزة الأمنية صنفت الحيازة بالدولار على أنها اشتباه في الاتجار، وتم استدعائي أنا شخصيًا إلى قسم الشرطة".

هذه الحادثة ليست فريدة، إذ تكررت خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وفق ما أكده تقرير لمنظمة "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، الصادر في يونيو 2025، والذي رصد ما لا يقل عن 17 حالة توقيف في القاهرة والإسكندرية والمنصورة، بحق أصحاب أو موظفي شركات ناشئة وصغيرة، تمت بناء على بلاغات أمنية تتعلق بـ"الاشتباه في تداول الدولار".
 

مناخ طارد للاستثمار
   
رغم محاولات حكومة الانقلاب المصرية الترويج لبيئة استثمارية جاذبة، فإن هذه الوقائع أثارت حالة من القلق لدى المستثمرين، سواء المحليين أو الأجانب، خاصة في القطاعات التقنية والمالية التي تعتمد على التعاملات الدولية.

وقالت رنا الطيبي، الشريكة المؤسسة لشركة برمجيات تعمل في العاصمة الإدارية: "نحن نحصل على تمويل خارجي بالدولار، ونحول جزءًا منه عبر البنك المركزي لشراء أدوات أو خدمات، ومع ذلك يُنظر إلينا بريبة، وكأننا عصابة غسل أموال".

وحذرت الغرفة الأمريكية للتجارة في بيان صدر نهاية مايو 2025 من "التدخلات الأمنية في الشأن الاقتصادي"، مؤكدة أن "الخط الفاصل بين مكافحة الجريمة الاقتصادية وحصار الشركات الناشئة بات مشوشًا، مما يؤثر سلبًا على مناخ الاستثمار ويعزز من هروب رؤوس الأموال إلى أسواق أكثر أمانًا".
 

تناقض دولة الانقلاب
   
على الرغم من أن حكومة الانقلاب المصرية قد أعلنت أكثر من مرة التزامها بدعم الابتكار وريادة الأعمال، كان أبرزها في تصريحات لرئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي في أبريل 2025 حين قال: "نحن حريصون على تهيئة بيئة اقتصادية تُمكّن الشباب من إطلاق مشروعاتهم بحرية وأمان"، فإن الواقع الميداني يكشف تناقضًا حادًا.

فقد أكد اقتصاديون أن هذا التناقض يعود إلى ضعف التنسيق بين الجهات الاقتصادية والأمنية، إضافة إلى فشل النظام في السيطرة على أزمة العملة الأجنبية، مما يجعله يلجأ إلى أدوات القمع والاشتباه عوضًا عن الإصلاح الاقتصادي الحقيقي.

وقال الدكتور مدحت نوفل، أستاذ الاقتصاد في جامعة حلوان، إن "غياب الشفافية بشأن التعاملات بالدولار، وتضارب السياسات النقدية والرقابية، يُنتج بيئة خصبة للتأويل الأمني وخلق حالة من الرعب داخل مجتمع الأعمال".
 

خلفية الأزمة
   
منذ بداية 2023، تعاني مصر من أزمة عملة أجنبية حادة، تفاقمت مع اتساع عجز الميزان التجاري ونضوب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ما اضطر الحكومة إلى تحرير سعر الصرف أكثر من مرة، آخرها في مارس 2024 عقب توقيع اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار.

وعلى الرغم من التعويم، استمرت الفجوة بين السعر الرسمي وغير الرسمي، مما زاد من لجوء الشركات إلى حلول مرنة للحصول على الدولار من الخارج، مثل الدفع مقابل خدمات أو تلقي تحويلات مباشرة من الشركاء.

لكن بدلًا من معالجة الأسباب الهيكلية للأزمة، اختار النظام العسكري الحاكم بقيادة عبد الفتاح السيسي استخدام الذراع الأمنية لإدارة الاقتصاد، في مشهد يعيد إلى الأذهان أساليب "اقتصاد الطوارئ" التي اتُّبعت في الأنظمة السلطوية.
 

صرخة رواد الأعمال
   
يطالب رواد الأعمال الدولة بتوفير مظلة قانونية واضحة للتعامل بالدولار في إطار الاقتصاد الرقمي، مع وقف الممارسات الأمنية التي تزرع الخوف وتشل حركة الشركات الناشئة.

وأطلق عدد من أصحاب المشاريع حملة إلكترونية بعنوان #مش_تاجر_عملة على منصات التواصل الاجتماعي في يونيو 2025، للتعبير عن غضبهم من التضييق الأمني، مؤكدين أن استمرار هذه السياسات سيدفعهم إلى الهجرة أو إغلاق شركاتهم.

واختتم البيان الذي أصدرته الحملة بالقول: "نحن لسنا مجرمين.. نحن رواد أعمال نحاول إنقاذ الاقتصاد من أزمته، لكن يبدو أن النظام لا يريد من يفكر أو يبتكر، بل فقط من يصفق ويطيع".

يواصل نظام الانقلاب المصري التضييق على القطاعات الأكثر قدرة على خلق فرص العمل وجذب العملات الأجنبية، في خطوة تُظهر حجم الفجوة بين الخطاب الرسمي والممارسة الأمنية، وفي حين يحتاج الاقتصاد المصري إلى عقول مبتكرة وشراكات دولية، فإن هذه السياسات القمعية تدفعه نحو مزيد من العزلة والانكماش.