في قلب محطة أتوبيس الترددي في "أم بيومي"، تقع ما بات يعرف بـ"المغارة المظلمة" التي تحولت إلى نقطة سوداء تهدد سلامة المواطنين وخاصة الفتيات والشباب، هذه المغارة الضيقة والمهجورة صارت مرتعًا للمخدرات والتحرش والدعارة، بحسب شهادات متكررة من سكان المنطقة ومستخدمي المحطة.
تورد عدة تقارير محلية حوادث إطلاق نار، تعديات جنسية، وتعاطي مخدرات ملحوظة داخلها منذ سنوات، دون تدخل فعّال من السلطات الأمنية، يظهر هذا المكان كمثال على فشل النظام في حماية أبناء الشعب من الانحراف والانهيار الأخلاقي.
يطرح هذا الوضع تساؤلات حادة حول مسؤولية الأجهزة الأمنية والرقابية في مصر، التي يبدو أنها غائبة أو متواطئة في بعض الأحيان.
وفقًا لشهادات مواطنين ونشطاء حقوقيين، تغيب الشرطة عن تأمين المحطة بشكل مكثف، ولا يوجد رصد مستمر لهذا الفضاء الخطير، كما تنعدم الرقابة المجتمعية بسبب التوتر الاجتماعي وتفشي الخوف والقهر العام في ظل حكم السيسي، وهو ما يضعف الثقة بين المواطنين والسلطات.
ولا تقتصر المسؤولية على الشرطة فقط، بل تشمل الجهات الحكومية المعنية التي فشلت في وضع خطط للإصلاح الاجتماعي وتحسين الخدمات الحضرية.
لماذا انهارت أخلاق المجتمع المصري؟
الأخلاق في مصر تحمل جراحًا عميقة تفاقمت بشدة منذ انقلاب عبد الفتاح السيسي في 2013، ففي دراسة من المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أصدرتها عام 2019 أكدت أن تراجع الوازع الديني والأخلاقي وغياب دور الأسرة والتعليم وقوة الضغوط الاقتصادية سبب رئيسي في انهيار الأخلاق.
كذلك أشار الدكتور أحمد شفيق في منتدى حقوقي عام 2024 إلى أن "السياسات الأمنية القمعية تضعف دور المجتمع المدني، وتدفع الشباب إلى التمرد بطرق أبعد ما تكون عن القيم السليمة".
وأكدت الدراسة مشاركة 10 خبراء مصريين عبر جامعات مرموقة مثل القاهرة والمنصورة والأزهر، فقد تراجعت قيم مثل الشهامة، والجدعنة، والاحترام المتبادل، وحل مكانها اللامبالاة والتفكك الاجتماعي، الإعلام المؤدلج وسياسات القمع دفعت المواطنين إلى الانغلاق على أنفسهم، مما أضعف شبكة العلاقات الاجتماعية التقليدية.
دكتور جمال شفيق، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، أشار أيضًا إلى أن غياب دور الأسرة وانشغالها بالكسب المادي، وتدهور منظومة التعليم وتحولها إلى "منظومة اقتصادية بحتة"، أدت إلى تخلي الشباب عن القيم الأساسية والتعلق بعالم افتراضي يتغذى على فساد القيم، كما أن الإعلام الحكومي والخاص لا يقدم أدوارًا تربية فعالة إنما يروج للسلوكيات السلبية.
وفي هذا السياق، حذر تقرير صادر عن "المنتدى المصري للتنمية وحقوق الإنسان" في فبراير 2024 من "تحول الأماكن العامة المهجورة إلى بؤر للمخدرات والجرائم"، داعياً إلى "دمج الشباب في برامج ثقافية ورياضية بدل تركهم فريسة للإحباط والانحراف".
الناشط وائل عباس غرّد قائلاً: "نحن لا نعيش في دولة، بل في ديكور دولة، وما محطة أم بيومي إلا زاوية من مشهد أكبر من الانهيار العام".
أرقام صادمة عن الانحرافات الاجتماعية
تزخر الأرقام الرسمية وبعض البحوث المستقلة بالإحصائيات التي تعكس الأوضاع المتردية:
- أفادت تقارير أن نسبة حالات التحرش في مصر تضاعفت عدة مرات خلال العقد الأخير، خصوصًا في الأماكن العامة مثل محطات الأتوبيس والأسواق.
- كشف المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في 2019 عن ارتفاع ملحوظ في نسبة الشباب المنخرط في تعاطي المخدرات، بما يتجاوز 15% في بعض المحافظات.
- حسب تقارير محلية، ترتفع نسبة الجريمة المرتبطة بالعنف الجنسي بشكل خاص في المناطق العشوائية والقريبة من محطات الترام والمترو وحافلات الترددي.
- في عام 2013، شهدت مصر مذبحة سياسية دمّرت الثقة الشعبية وأدت إلى حالة عامة من الهروب من المواطنة والمسؤولية الاجتماعية، والتي لم تتعافَ تمامًا حتى الآن.
على الصعيد السياسي، عبّر العديد من المراقبين عن قلقهم من انحدار الأمور تحت حكم السيسي، قال المعارض البارز محمد عبد الله في مقابلة عام 2023: "الأزمات الأخلاقية والاجتماعية في مصر ليست صدفة، بل نتيجة صارخة لسوء الإدارة السياسية، وانتهاك حقوق الإنسان، وفرض حالة الخوف التي تعطل كل أطر الرقابة الاجتماعية"؛ مؤكدا أن غياب الشفافية هو عامل رئيسي لأي إصلاح ممكن.
في مقابل ذلك، لم تعطِ حكومة الانقلاب المصرية أولوية واضحة لمكافحة هذه الانحرافات، بل تركز على القضايا الأمنية بمعزل عن تحسين جودة الحياة.
تقرير كهذا يبرز أن مشكلات المجتمع المصري اليوم ليست فقط أمنية أو اقتصادية، بل أخلاقية واجتماعية عميقة ناتجة عن تراكمات سياسية وثقافية، فمحطة "أم بيومي" ومغارتها المظلمة مثال حي على هشاشة منظومة الأمن والرقابة وفشل الدولة في حماية أبناءها، بينما تتسارع انهيارات القيم الأخلاقية التي تحذر منها خبراء منذ سنوات، الحل لا يمكن أن يكون إلا في إجراءات شاملة تعيد بناء ثقة المجتمع بنفسه وبمؤسساته، تبدأ برفع القمع، وتعزيز دور الأسرة والتعليم وتفعيل الرقابة المجتمعية.