شهد ملف سد النهضة الإثيوبي منذ سنوات توترات متصاعدة تهدد الأمن القومي لمصر، التي تعتمد على نهر النيل كمصدر رئيسي لمياهها بنسبة تتجاوز 90%، فإثيوبيا أنهت بناء السد بنسبة 98% وأعلنت عن افتتاحه رسمياً في سبتمبر 2025، رغم غياب اتفاق ملزم مع مصر والسودان، مما أشعل أزمة مائية وسياسية خطيرة.
أزمة العجز المائي المتفاقمة في مصر
بحلول عام 2025، تعاني مصر من عجز مائي بلغ أكثر من 54 مليار متر مكعب سنوياً، في ظل موارد مائية فعلية لا تتجاوز 59.6 مليار متر مكعب، في حين يستهلك السكان المتزايدون والمشاريع التنموية مزيداً من الماء.
نصيب الفرد من المياه انخفض إلى حوالي 500 متر مكعب سنوياً، أي أقل كثيراً من خط الفقر المائي العالمي والبالغ ألف متر مكعب، وهو ما يُصنف في مجال "الندرة المطلقة".
مصر التي كانت تستخدم موارد النيل بنسبة 98% تواجه اليوم أزمة ليست فقط ناجمة عن سد النهضة، بل أيضاً سوء إدارة حكومي وسياسات عسكرية اقتصادية فاشلة، أدت إلى تفاقم العجز وتدهور الأمن الغذائي، حيث تستورد البلاد حوالي 60% من غذائها بسبب نقص الموارد المائية اللازمة للزراعة.
العقلية الانفرادية والفشل التفاوضي
منذ عام 2011 وحتى 2025، شهدت المفاوضات الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا انعدام إرادة سياسية حقيقية من الجانب الإثيوبي، وغياب استراتيجية واضحة من قبل نظام الانقلاب المصري تجاه السد.
في ديسمبر 2023، فشلت مصر رسمياً في التوصل لاتفاق قانوني ملزم، واستمرت إثيوبيا في ملء السد دون التنسيق مع القاهرة.
تصريحات وزير الموارد المائية المصري بحكومة الانقلاب، هاني سويلم، في أغسطس 2025، كشفت عن تهديد مباشر للأمن المائي المصري، مع تحذيرات من شح مائي حاد قد يهدد حياة ملايين السكان والزراعة المصرية، مطالبة بتدخل دولي ووقف الإجراءات الأحادية الإثيوبية.
في المقابل، يتبنى نظام قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي خطاباً تضليلياً، حيث صرح في 2019 بأنه "لن يُنقص أحد نقطة مياه من مصر"، فيما يعترف وزراء حكومته لاحقاً بعجز مائي جوهري وخطورة السد، هذا التناقض السياسي يعكس فشل النظام في إدارة ملف حيوي استراتيجي ويدفع البلاد نحو أزمات متراكمة.
التوترات الإعلامية بين القاهرة وأديس أبابا
في الجانب المصري كرّر مسؤولون كبار وصف الأزمة بأنها قضية وجودية، تعبيرات استُخدمت مرارًا في بيانات رسمية وإعلامية لتبرير لهجة حادة ضد أديس أبابا، بالمقابل، ردّت إثيوبيا بنبرة سيادية مؤكدة أنها لن تتخلّى عن حقّها في التنمية والطاقة.
هذا التراشق لم يبقَ في المكاتب، بل انتقل إلى شاشات الإعلام الموالي للسلطة في مصر، حيث استُخدمت اللغة الوطنية الحادة لتوجيه الغضب الشعبي تجاه خصم خارجي، بينما لم تُقدَّم حلول تقنية واقعية لمعالجة العجز الداخلي في الموارد أو تحسين إدارة المياه، هذه الديناميكية تحوّل ملفاً فنياً إلى ساحة استغلال سياسي داخلي.
في يوليو 2025، رفضت مصر المشاركة في حفل افتتاح السد، معتبرة الخطوة إثيوبية أحادية تخالف القانون الدولي ومخاطر على الأمن القومي، وبدأت في تنشيط قنواتها الدبلوماسية لاستصدار مواقف دولية ضد بناء وتشغيل السد دون اتفاق.
أديس أبابا أعلنت عزمها افتتاح السد في سبتمبر 2025، معلنة أن أي ضرر لمصر أو السودان سيكون ضررًا لإثيوبيا أيضاً.
ما الذي النتائج المباشرة تسببت فيه سياسات السلطة الانقلابية؟
- تفاقم هشاشة الأمن الغذائي، مع ارتفاع مخاطر انخفاض المحاصيل في موسم جفاف شديد.
- تصاعد الاعتماد على حلول جزئية ومكلفة كـ(تحلية مياه، استيراد مياه أو محاصيل)، ما يزيد فاتورة الدولة والقطاع الخاص.
- استغلال ملف المياه لتعزيز خطاب قومي داخلي يخفّف من محاسبة السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
- تآكل الثقة الإقليمية بدلاً من تحويل القضية إلى تفاوض فني مشترك، غلبت اللهجة السياسية والتصعيد الإعلامي التي أضعفت مكانة القاهرة في بعض دوائر الوساطة الدولية.
الأثر الاقتصادي والاجتماعي..
وفق تقارير البنك الدولي، مصر قد تخسر أكثر من 2 مليون فدان زراعي في السنوات الخمس المقبلة بسبب العجز المائي، مما يعني فقدان آلاف الوظائف وتفاقم الفقر الغذائي، في ظل اقتصاد يعتمد 14.5% من ناتجه على الزراعة وصيد الأسماك، ويشغل ربع السكان.
الفلاحون المصريون يتحملون العبء الأكبر مع ندرة المياه التي بلغت مستويات مقلقة، وفشل نظام الانقلاب في دعمهم أو وضع خطط حقيقية لضمان الأمن الغذائي، وهو ما أدى إلى انهيار قطاع الزراعة وتزايد الهجرة من الريف إلى المدن الأمر الذي يزيد من أزمة البطالة والفقر.
كيف تأثر انقلاب السيسي بكارثة المياه؟
أظهرت الأزمة أن نظام السيسي العسكري فشل فشلاً ذريعاً في إدارة ملف الأمن المائي القومي، إذ لم يستطع فرض إرادته الدبلوماسية أو الاستفادة من أوراق الضغط الدولية، بل استنزف فرص التفاوض وأضعف صورة مصر في المحافل الدولية، وأدى إلى تعميق الانقسام الداخلي والفقر والتدهور الاقتصادي.
تعددت تصريحات السيسي الفارغة والوعود الكاذبة، فيما تسير الأمور بلا خطة واضحة أو تنسيق داخلي حقيقي، كما أن سياسات التوسع العمراني والصناعي دون مراعاة الموارد المائية تزيد من أزمة نقص المياه، وهو ما يكشف عن عدم جدية النظام في مواجهة واقع الأزمة أو الاستثمار في حلول مستدامة.
على ضوء ما سبق، لم يتبق لمصر سوى أن تعيد ترتيب أولوياتها وتنفيذ خطة وطنية شاملة لإدارة المياه، تدور حول التفاوض الجاد، الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة للري والتحلية، وتوفير أمن غذائي مستقل.
الإخفاق في حل أزمة سد النهضة يهدد وجود مصر بشكل مباشر، ولا يمكن استمرار سياسة الانفراد أو الانصياع للحلول السياسية الأحادية التي أصبحت تخنق مصر وشعبها في العطش والجوع والفقر.