تشهد منطقة طوسون بالإسكندرية أزمة متصاعدة بعد إصرار السلطات على تنفيذ قرارات إزالة وتهجير آلاف الأسر من منازلها، بدعوى إعادة التطوير ونقلهم إلى وحدات بمشروع "بشائر الخير".
ورغم أن الأهالي دفعوا أموالًا في ملفات التصالح على بيوتهم، فوجئوا بقرارات الإزالة القسرية، ومعها حملة تهديدات وضغوط وصلت إلى حد اعتقال متحدثهم الرسمي وحبسه 15 يومًا، وسط اتهامات ملفقة بالانضمام إلى "جماعة إرهابية". القصة لم تعد مجرد نزاع سكني، بل تحولت إلى صراع بين المواطنين البسطاء وسلطة أمنية متغلغلة ترفض الاستماع لصوت الناس.
لواءات البحرية في قلب الأزمة
يتساءل أهالي المنطقة ومعهم نشطاء سياسيون: ما الذي يفعله لواءات البحرية في ملف عمراني وسكني؟ ولماذا يتصدرون مشهد التهجير بدلًا من الأجهزة المدنية؟ مقاطع فيديو متداولة على منصات التواصل الاجتماعي أظهرت حضور ضباط برتب عسكرية كبيرة إلى المنطقة، موجهين إنذارات قاسية للأهالي بضرورة الإخلاء الفوري.
الكاتب عبدالحليم قنديل علّق على ذلك بالقول: "إقحام المؤسسة العسكرية في صراع مدني حضري رسالة بأن الدولة تتعامل مع المواطنين باعتبارهم خصومًا، لا شركاء في التطوير"، وهو ما يعكس عقلية أمنية أكثر منها عمرانية.
6 آلاف أسرة تحت التهجير القسري
بحسب تقديرات الأهالي، يقطن منطقة طوسون أكثر من 6 آلاف أسرة، يعتمد أغلبهم على حرف صغيرة، ومحال تجارية متوارثة، وعلاقات اجتماعية ممتدة عبر عقود. الإصرار على تهجيرهم إلى شقق صغيرة لا تتجاوز 60 مترًا في "بشائر الخير"، وبنظام انتفاع أو إيجار شهري، اعتبره السكان "تهجيرًا قسريًا" يفتت العائلات ويقضي على مصادر الرزق.
إحدى السيدات قالت في مقطع مصور: "بيوتنا ورثناها عن أجدادنا، دفعنا فلوس التصالح، والآن يقولون لنا: اخرجوا، هذه الأرض لم تعد لكم". شهادات مشابهة تكررت على ألسنة عشرات الأسر التي باتت تواجه شبح التشرد.
الاعتقالات والتهديد بتلفيق القضايا
الأزمة تصاعدت بعد أن قام أحد ممثلي الأهالي بتعليق لافتة كتب عليها: "مش هنسيب بيوتنا"، فتم القبض عليه فورًا، وعرض على النيابة التي قررت حبسه 15 يومًا بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية. الخطوة اعتُبرت رسالة ترهيب لأي صوت معارض أو محاولة للتنظيم السلمي ضد قرارات الإخلاء.
مقاطع فيديو نشرها الأهالي أظهرت أيضًا تهديدات مباشرة من بعض الضباط بتلفيق قضايا "مخدرات" لكل من يرفض ترك منزله. هذه الأساليب الأمنية، التي وصفها حقوقيون بأنها "تكميم للأفواه بالقوة"، أثارت حالة من الغضب الشعبي والتضامن مع سكان طوسون.
خلفية سياسية وحقوقية للأزمة
منظمات حقوقية محلية ودولية وثقت في السنوات الأخيرة تزايد الانتهاكات المرتبطة بمشروعات الإزالات وإعادة التسكين، معتبرة أنها تفتقر إلى الشفافية وتُدار بعقلية "الإخلاء القسري".
في حالة طوسون، يتضح أن الهدف ليس مجرد تطوير عمراني، بل إفراغ الأرض من سكانها، وسط غياب أي ضمانات لحقوق الملكية أو حتى رد أموال التصالح التي دفعها المواطنون. المحامي الحقوقي خالد علي وصف ما يحدث بأنه "جريمة دستورية"، مشيرًا إلى أن المادة 63 من الدستور تحظر التهجير القسري لأي مواطن تحت أي ذريعة.
مشروع "بشائر الخير": وعود براقة وواقع قاسٍ
الحكومة تروّج لمشروع "بشائر الخير" باعتباره نموذجًا حضاريًا لإنقاذ سكان العشوائيات، لكن الواقع الذي كشف عنه الأهالي يقول غير ذلك. الشقق صغيرة المساحة، بنظام إيجار لا يضمن الاستقرار، وغالبًا بعيدة عن مصادر رزق السكان. تقارير صحفية سابقة أشارت إلى أن من انتقلوا للمشروع في مراحله الأولى واجهوا أزمات تتعلق بارتفاع تكاليف المعيشة، غياب بعض الخدمات، وتفكك الروابط الاجتماعية.
وأخيرا فإن ما يحدث في طوسون ليس مجرد "إزالة لمبانٍ مخالفة"، بل مشهد أوسع يعكس عقلية حكم ترى في المواطن عبئًا، وفي الأرض فرصة استثمارية. تدخل لواءات البحرية، تهديدات بتلفيق قضايا، واعتقالات تعسفية، كلها مؤشرات على أن الأزمة تتجاوز الإسكان إلى قضية حقوق أساسية للمصريين. وبينما يصر الأهالي على التشبث بمنازلهم، يواجهون آلة دولة تسعى لإخضاعهم بالقوة، لتبقى طوسون نموذجًا حيًا لمعركة بين "الناس وحقهم في البقاء" وبين "سلطة لا تسمع إلا صوت الجرافة".