في الوقت الذي اعتبر فيه كثيرون أن الإفراج عن الناشط السياسي علاء عبد الفتاح يشكل بادرة "انفراجة" في المشهد الحقوقي المصري، جاء خبر اعتقال الباحث والصحفي إسماعيل الإسكندراني ليعيد التساؤلات القديمة إلى الواجهة: هل ما يجري تحول فعلي نحو تخفيف القبضة الأمنية، أم أنه مجرد إعادة توزيع للأوراق وتبديل للوجوه بهدف ترميم صورة نظام السيسي أمام الداخل والخارج؟ هذا التناقض الصارخ بين إطلاق سراح رمز بارز للمعارضة واعتقال صوت صحفي آخر يعكس، وفق محللين، مأزق السلطة المصرية بين الحاجة إلى تحسين سمعتها الحقوقية وبين تمسكها بسياسة القمع كأداة أساسية للحكم.
علاء عبد الفتاح.. الإفراج الذي حمل رسائل سياسية
الإفراج عن علاء عبد الفتاح، أحد أبرز رموز ثورة يناير، لم يكن حدثاً عادياً. فهو سجين سياسي بارز، تحوّل إلى أيقونة للمعارضة المدنية في مصر، وحظي قضيته باهتمام واسع من منظمات حقوقية عالمية وحكومات غربية، خاصة بريطانيا التي يحمل جنسيتها. إطلاق سراحه بدا وكأنه رسالة سياسية موجهة للخارج أكثر من كونها انفراجة داخلية: النظام أراد أن يقول للعالم إنه يستجيب للضغوط ويتجاوب مع مطالب تحسين ملف حقوق الإنسان، خصوصاً في ظل أزمة اقتصادية خانقة وحاجة ماسة إلى دعم دولي وقروض جديدة.
اعتقال إسماعيل الإسكندراني.. الوجه الآخر للمعادلة
لكن سرعان ما جاء اعتقال الصحفي والباحث المتخصص في شؤون سيناء، إسماعيل الإسكندراني، ليقلب الصورة. فالإسكندراني معروف بأبحاثه التي كشفت انتهاكات عسكرية وأمنية في شمال سيناء، حيث يدور صراع مسلح طويل مع الجماعات المسلحة. اعتقاله يوجه رسالة مختلفة تماماً: حرية التعبير في مصر ما زالت خطاً أحمر إذا تجاوز حدود الرواية الرسمية، خاصة في الملفات الحساسة مثل الجيش وسيناء. هنا يظهر التناقض: إذا كان الإفراج عن علاء هدفه التجميل الخارجي، فإن اعتقال إسماعيل يكشف ثبات قواعد اللعبة الداخلية.
بين الانفراجة الشكلية وإعادة التدوير
السلطة المصرية لجأت خلال السنوات الأخيرة إلى أسلوب "التدوير": تفرج عن بعض الوجوه البارزة التي أصبحت كلفتها السياسية والإعلامية مرتفعة، ثم تعتقل وجوهاً أخرى أقل شهرة لكنها لا تقل خطورة في تحديها للسردية الرسمية. بذلك توازن بين تخفيف الضغوط الدولية من جهة، والإبقاء على مناخ الخوف والردع من جهة أخرى. قد يبدو الإفراج عن علاء عبد الفتاح مكسباً للمعارضة، لكنه في الحقيقة جزء من عملية إعادة هندسة المشهد، بحيث تظل رسالة القمع قائمة وإن تغيرت الشخصيات.
حسابات الداخل والخارج
توقيت الخطوتين معاً لا يخلو من حسابات دقيقة. على المستوى الخارجي، النظام يسعى لإقناع شركائه في الغرب – خصوصاً الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي – بأنه يتحرك نحو تحسين بيئة حقوق الإنسان. أما داخلياً، فهو لا يريد أن يرسل رسالة ضعف أو تساهل مع المعارضة. لذلك جاءت معادلة "إفراج – اعتقال": خطوة تمنح النظام نقاطاً سياسية أمام المجتمع الدولي، وأخرى تؤكد للجمهور المحلي أن القبضة الأمنية لم ولن تتراخى.
صورة النظام بين الترميم والتناقض
ما يكشفه هذا التناقض أن ما يجري لا يمكن اعتباره انفراجة سياسية حقيقية. فالنظام الانقلابي لم يغير سياساته الأساسية: ما زال يقمع الصحفيين والباحثين والنشطاء، وما زال يحظر أي رواية مغايرة لروايته الرسمية. التغيير الوحيد هو في طريقة إدارة الصورة: إطلاق سراح بعض الرموز البارزين لا يغيّر من الواقع القمعي، بل يُستخدم كأداة لتلميع المشهد وترميم صورة السلطة في لحظة حرجة اقتصادياً وسياسياً.
الخلاصة أن اعتقال إسماعيل الإسكندراني بعد الإفراج عن علاء عبد الفتاح ليس مفارقة عبثية، بل جزء من استراتيجية مدروسة: النظام يطلق سراح وجوه ذات كلفة عالية إعلامياً ليخفف الضغط، ويعتقل في المقابل من يفضح الملفات التي يريد إبقاءها في الظل. لذلك، الحديث عن انفراجة قادمة يبدو وهماً؛ فالحقيقة أن ما يحدث هو إعادة ترتيب لوجوه القمع لا أكثر. مصر ما زالت بعيدة عن أي إصلاح سياسي حقيقي، وما يجري لا يعدو أن يكون ترميماً لصورة مهترئة أمام العالم.