أصدرت النيابة العامة قرارًا أثار جدلًا واسعًا، يقضي بمنع نشر الفيديوهات الجنائية التي يصوّرها المواطنون أو تداولها عبر منصات التواصل الاجتماعي. القرار جاء تحت مبرر "الحفاظ على سرية التحقيقات وعدم التأثير على الرأي العام"، لكنه سرعان ما تحول إلى مادة للنقاش الحاد بين خبراء حقوقيين وإعلاميين، رأوا فيه حلقة جديدة من حلقات القمع وتقييد حرية التعبير، فضلًا عن أنه يُمثل خطوة نحو تأميم الفضاء الإعلامي الرقمي الذي ظل متنفسًا وحيدًا للمصريين في ظل هيمنة إعلام الدولة على القنوات والصحف.
قمع تحت غطاء القانون
يرى خبراء قانونيون أن القرار يهدف عمليًا إلى إسكات صوت الشارع وتجريم المواطن الذي يحاول توثيق أو فضح جريمة. المحامي الحقوقي نجاد البرعي علّق قائلًا: "النيابة العامة من حقها إدارة التحقيق، لكن ليس من حقها مصادرة حق المواطنين في نشر وتداول المعلومات، فهذا تكميم للأفواه، وليس إجراءً قانونيًا".
وأضاف أن التجريم المبالغ فيه لمشاركة فيديوهات لجرائم كالقتل أو السرقة أو الاعتداء، يجعل من المواطن شريكًا في الجريمة بدلًا من أن يكون شاهدًا عليها، وهو ما يفتح الباب لتكميم كل ما قد يُحرج السلطات أو يكشف تقاعس الأجهزة الأمنية.
 

تناقض مع مواقف أمنية سابقة
المفارقة أن قيادات أمنية مصرية كانت قد رحبت في وقت سابق بانتشار هذه الفيديوهات، بل واعتبرتها وسيلة فعّالة لكشف الجرائم وتسريع القبض على الجناة. ففي 2021، على سبيل المثال، أشاد مساعد وزير الداخلية الأسبق اللواء فاروق المقرحي بدور المواطنين الذين وثقوا جرائم تحرش وسرقة بالإكراه، قائلًا إن "الكاميرا صارت عين العدالة".

 

اليوم، ومع قرار النيابة العامة، يبدو أن الموقف الرسمي انقلب تمامًا، حيث اعتُبرت الفيديوهات "إضرارًا بسير التحقيقات" و"وسيلة لبث الفوضى"، وهو ما يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل الهدف حماية مسار العدالة فعلًا أم حماية صورة الدولة من أي فضائح أو انتقادات شعبية؟
 

تقييد حرية التعبير وتأميم الفضاء الإعلامي
الصحفي خالد محمود، علّق على القرار بالقول: "ما يجري ليس سوى محاولة جديدة لإغلاق ما تبقى من فضاءات للنشر الحر. بعدما تمت السيطرة على الصحف والقنوات، جاء الدور الآن على السوشيال ميديا".
ويرى خبراء الإعلام أن القرار يمهد عمليًا لـ تأميم الفضاء الرقمي، بحيث يصبح المواطن غير قادر على نشر أي محتوى جنائي أو حتى فضائحي يحرج الدولة، خصوصًا مع اتساع نطاق الجرائم المتعلقة بالعنف المجتمعي، والتحرش، والانتهاكات التي كثيرًا ما تثير غضب الرأي العام وتفرض تحركًا رسميًا.
 

مخاطر على العدالة والمجتمع
انتقد حقوقيون القرار لأنه يضرب واحدة من أهم وسائل الرقابة الشعبية على الأجهزة الأمنية والقضائية. ففي حالات عديدة، لم يكن ليتم تحريك دعاوى قضائية لولا الضجة التي أثارتها فيديوهات متداولة على فيسبوك أو تويتر.
على سبيل المثال، في قضية "طفلة المعادي" عام 2020، كان لفيديو مواطن دور حاسم في القبض على المتهم. كذلك، في وقائع تحرش جماعي بوسط القاهرة، كانت الفيديوهات التي صورها المارة أداة أساسية لإجبار السلطات على التحرك.


بغياب هذه الأدوات، يخشى نشطاء أن تصبح الجرائم أكثر سرية، وأن تتسع فجوة انعدام الثقة بين المجتمع ومؤسسات العدالة، إذ لن يكون هناك ما يضمن تحرك السلطات إلا وفق ما تراه هي فقط، دون ضغط شعبي.
 

القرار كجزء من منظومة أوسع للقمع
لا ينفصل قرار النيابة عن السياق الأوسع لسياسات الدولة في السنوات الأخيرة، والتي شهدت إغلاق عشرات المواقع الإخبارية، وحبس مئات الصحفيين والمدونين بتهم "نشر أخبار كاذبة"، وتقييد أي أصوات ناقدة على منصات التواصل.

الناشط الحقوقي جمال عيد وصف القرار بأنه "جزء من مشروع شامل للسيطرة على العقول والمجتمع"، مضيفًا أن "النظام لم يكتفِ بتكميم الإعلام التقليدي، بل يسعى الآن إلى محو أي قدرة للمواطن على أن يكون عينًا أو شاهدًا على ما يجري حوله".

وفي النهاية فقرار النيابة العامة بحظر نشر الفيديوهات الجنائية على السوشيال ميديا قد يبدو في ظاهره إجراءً قانونيًا لتنظيم سير التحقيقات، لكنه في جوهره إجراء سياسي وأمني يستهدف السيطرة على ما تبقى من أدوات التعبير الحر. وبينما يُروّج له على أنه وسيلة لضبط المعلومات، يراه خبراء كثر حلقة جديدة في سلسلة القمع، تجعل من المواطن مجرد متفرج صامت على جرائم تقع أمامه، بلا قدرة على التوثيق أو الضغط أو المشاركة في تحقيق العدالة.