مها حسن

كاتبة وروائية سورية

 

لا تزال النساء قادراتٍ على تقديم أمثلة حيّة للعظمة والبطولة والنبل والإيمان الذي يقود إلى النصر. وفي زمن تسود فيه الأحداث المأساوية وتتشابك الصراعات السياسية مع الإنسانية، تبرز قصص الأمهات مناراتٍ تضيء دروب النضال، إنهن لسن مجرّد أمّهات يربين أطفالاً، بل مناضلات يحملن في قلوبهن قوة الجبال، وفي أجسادهن صبر الأرض الخصبة.

من هؤلاء النساء اللواتي تجاوزن حدود الضعف الجسدي، ليصلن إلى قمم الشجاعة، تبرز قصّة الأكاديمية المصرية ليلى سويف. المرأة التي خاضت إضراباً سلمياً عن الطعام استمرّ أكثر من عام، ونجحت في إطلاق سراح ابنها الناشط السياسي علاء عبد الفتّاح. ليست قصّتها مجرّد حدث فردي، بل تذكير حيٌّ بتلك النساء في أيام الحروب القديمة، اللواتي كنّ يجلسن في مشارف القرى، يغنين أغاني الشوق والأمل حتى يعود المقاتلون سالمين. وفي الحالتَين، تكمن عظمة الأمومة في قدرتها على تحويل الضعف سلاحاً، والصمت صرخةً تُغيّر التاريخ.

ليلى سويف، المولودة في بريطانيا عام 1956 لعائلة مصرية مثقّفة وناشطة، ترعرعت في بيئة غنية بالفكر والمقاومة. كان زوجها (أحمد سيف الإسلام عبد الفتّاح) محامياً وحقوقياً يسارياً بارزاً تحدّى الاستبداد في عهدي أنور السادات وحسني مبارك. انتقلت إلى مصر لتصبح أستاذةً في العلوم بجامعة القاهرة، امتزجت حياتها المهنية بنضالها الإنساني أمّاً لعلاء عبد الفتّاح، الناشط الثوري، الذي لعب دوراً قيادياً في ثورة 25 يناير (2011)، الثورة التي أطاحت مبارك وأشعلت شرارة التغيير في الشارع المصري.

أعلنت ليلى (68 عاما) في 30 سبتمبر 2024، إضراباً كلّياً عن الطعام، مقتصرةً على القهوة والشاي والسوائل الطبّية لتعويض الجفاف. لم يكن هذا الإضراب احتجاجاً شخصياً فحسب، بل صرخةً سلميةً أمام مقرّ رئيس الوزراء البريطاني في 10 داونينغ ستريت بلندن. هناك، كانت تعتصم يومياً ساعةً برفقة عائلتها ومتضامنين من سياسيين وإعلاميين، مطالبةً الحكومة البريطانية بالتدخّل لإنقاذ ابنها الذي يحمل الجنسية البريطانية.

استمرّ الإضراب أشهراً، خسرت خلالها ليلى نحو 30 كيلوغراماً من وزنها، وأُدخلت المستشفى بسبب تدهور صحّتها، ولفشلٍ في وظائف القلب. لم تكن هذه المرّة الأولى، فقد أضربت ليلى عام 2011 احتجاجاً على محاكمة علاء أمام القضاء العسكري في الأحداث أمام مقر التلفزيون المصري (ماسبيرو). لكن المخاطر، هذه المرّة، كانت أكبر، والصحّة أضعف.

في يوليو 2025، أنهت الإضراب مؤقتاً بعد حوالي 290 يوماً بسبب وضعها الصحّي الحرج، لكن الضغط استمرّ. وفي 22 سبتمبر الجاري، أصدر الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي عفواً عن علاء وخمسة آخرين، استجابةً لمناشدات المجلس القومي لحقوق الإنسان. انتهى الإضراب بانتصارٍ، لا لعلاء فحسب، بل لقوة أمومة ليلى التي حوّلت جوعها حرّيةً.

تذكّرنا قصّة ليلى سويف بتاريخ النساء في صراعاتنا الجماعية، خصوصاً في أوقات الحروب التي شهدتها شعوبنا العربية والعالمية. خلال الحروب العالمية أو نضالات التحرير، مثل الثورة الجزائرية (1954 - 1962) أو النضال الفلسطيني، كانت النساء يجلسن على مشارف القرى، يحملن في أفواههن أغاني الشجن والصمود. لم يكن غناؤهن تسليةً، بل سلاحاً نفسياً يبعث الأمل في قلوب المقاتلين، يذكّرهم بما يقاتلون من أجله: الأرض، العائلة، الحرية. في الثورة الجزائرية، كانت نساء مثل جميلة بوحيرد، أو أخريات يغنين "يا ليل يا عين" في الجبال، ينتظرن عودة المقاتلين.

تلك الأغاني كانت رسائلَ مُشفَّرة تحمل أخباراً أو تعزّز الروح المعنوية. في مصر خلال حرب 1973، أو في لبنان في أثناء الغزو الإسرائيلي عام 1982، لعبت الأمهات دوراً مماثلاً، ينشدن أهازيج الوطن ويصلّين لعودة أبنائهن سالمين.

ليلى سويف، بإضرابها السلمي، امتداد لهذا التراث. بدلاً من الأغاني، استخدمت الصمت الجائع أغنيةَ تحرير، تردّدت أصداؤها في شوارع لندن والقاهرة، حتى فُتحت أبواب السجن، ولا تختلف عن نساء أخريات قدّمن صوراً عظيمة من الأمومة، كما فعلت أيضاً فيروز في مواجهة أقسى اختبارات الحياة: فقدان الابن. في جنازة نجلها زياد الرحباني، وقفت في الكنيسة بتماسك يعكس قوتها الداخلية، كأنها تجسّد كلمات أغنياتها التي دعت إلى الأمل. وذكّرنا هذا المشهد بأن الأمومة ليست في الحياة فقط، بل في القدرة على حمل الألم بثبات، كالنساء اللواتي يغنّين في مشارف القرى، لكن أغنية فيروز هذه المرّة كانت صلاةً صامتةً لروح ابنها.

عظمة الأمومة لا تكمن في الولادة فحسب، بل أيضاً في التضحية بالنفس لأجل الآخرين. ليست ليلى سويف استثناءً، بل رمز لكلّ أمّ قاومت الظلم بجسدها وروحها، سواء في ساحات الحروب أو في غرف الاعتقال. قصتها تؤكّد أن التغيير يبدأ من قلب أمّ، وأن الصمود السلمي أقوى من أيّ سلاح. في عالم يغلب فيه العنف، تبقى هاته النساء شاهداً على أن الحبّ الأمومي قادر على هزّ العروش وفتح الأقفال وتحرير السجون.

صورة ليلى سويف اليوم محتضنة ابنها، قائلةً: "عقبال ولاد الناس كلها"، ستظلّ عالقةً في المخيال الجمعي العربي، برهاناً قوياً على انتصار الأمهات، انتصار الأمل.