ممدوح الولي

خبير اقتصادي ونقيب الصحفيين سابقًا

 

رغم العجز التجاري السلعي لإسرائيل المستمر منذ سنوات طويلة، فقد استطاعت أن تزيد من صادراتها الخدمية، لتحقق تجارتها الخدمية فائضًا مستمرًا أمكنه استيعاب العجز التجاري السلعي، بل وتحقيق فائض بميزان تجارة السلع والخدمات مع العالم.

وها هي أرقام ميزان المدفوعات الإسرائيلي الخاصة بالنصف الأول من العام الحالي، تشير إلى بلوغ قيمة العجز التجاري السلعي 14.9 مليار دولار، كفرق بين الواردات السلعية الأكبر والصادرات السلعية الأقل، بينما حققت فائضًا بتجارتها الخدمية بلغ 18.8 مليار دولار، مما أمكن معه استيعاب العجز التجاري السلعي، وتحقيق فائض بميزان تجارة السلع والخدمات بقيمة 3.9 مليار دولار.

وتزداد الغرابة في أن غالب مكونات تجارة الخدمات الإسرائيلية تحقق عجزًا مستمرًا، ففي النصف الأول من العام الحالي حققت السياحة الإسرائيلية عجزًا بلغ 4 مليارات دولار، نتيجة زيادة مدفوعات السياحة الخارجة من الكيان عن إيرادات السياحة الواصلة للكيان، وهو أمر مزمن.

ونفس العجز بخدمات النقل بقيمة 199 مليون دولار لنفس السبب، وتكرر العجز بخدمات التأمين بقيمة 347 مليون دولار وبالخدمات الحكومية بقيمة 115 مليون دولار، واستمر تكرار العجز بتلك النوعيات من تجارة الخدمات خلال النصف الأول من العام الماضي والنصف الأول من عام 2023.

 

عجز بمعظم مكونات التجارة الخدمية

إذن كيف تحقق التجارة الخدمية فائضًا وغالب مكوناتها بها عجز؟

يكمن السر في خدمات الأعمال التي تحقق إيرادات كبيرة، تستوعب عجز باقي نوعيات تجارة الخدمات، بل وتحقق فائضًا مستمرًا بتجارة الخدمات. ففي النصف الأول من العام الحالي حققت خدمات الأعمال إيرادات بلغت 39.1 مليار دولار مقابل مدفوعات لخدمات الأعمال بلغت 15 مليار دولار، لتحقق خدمات الأعمال فائضًا بلغ 24 مليار دولار، وهو ما أمكنه استيعاب العجز بباقي نوعيات الخدمات من سياحة ونقل وتأمين وخدمات حكومية، وتحقيق فائض بالتجارة الخدمية بلغ حوالى 18.8 مليار دولار.

ويحتاج الأمر لمعرفة أبرز نوعيات إيرادات خدمات الأعمال بالنصف الأول من العام الحالي، والبالغ مجملها 39 مليار دولار، حيث استحوذت أنشطة برمجة الكمبيوتر والاستشارات على 24.7 مليار دولار، وخدمات الوساطة المالية 3.7 مليار دولار، وخدمات الأنشطة القانونية والمحاسبية والخدمات العلمية 2.1 مليار دولار، والخدمات المالية 1.8 مليار دولار، وخدمات تجارة الجملة  مليار دولار، وخدمات الاتصالات 212 مليون دولار، إلى جانب خدمات أنشطة التوظيف والأمن وتنسيق الحدائق والمنتجات الإلكترونية والبصرية.

وهكذا ترتبط إيرادات خدمات الأعمال بنوعية التعليم والتدريب واكتساب المهارات، وهي المهارات التي تسببت في تفجير أجهزة «البيجر» لدى أفراد حزب الله بلبنان، وإرباك صفوف قوات الحزب مع كثرة عدد الضحايا والمصابين، إلى جانب التأثير على شبكة اتصالاته. كما أن تلك النوعية من المهارات قد ساهمت في بلوغ قيمة صادرات الأسلحة الإسرائيلية لدول العالم بالعام الماضي 14.7 مليار دولار، بنمو 13% عن صادرات السلاح بالعام الأسبق حين بلغت 13.1 مليار دولار، وكانت قد بلغت 12.5 مليار دولار عام 2022، مع الأخذ في الاعتبار أن قيمة صادرات السلاح لا تدخل في بيانات ميزان المدفوعات التي يعدها بنك إسرائيل المركزي.

 

نمو الصادرات الخدمية وتراجع السلعية

وبالعودة إلى النشاط المدني لخدمات الأعمال التي ترتكز على البرمجيات أساسًا، نجد أن إيراداتها قد أخذت اتجاهًا صعوديًا رغم ظروف الحرب على غزة وعلى غيرها من الدول العربية وإيران، بعكس ما حدث مع الصادرات السلعية لإسرائيل التي انخفضت قيمتها مع ظروف الحرب.

فقد كانت قيمة الصادرات السلعية الإسرائيلية بالنصف الأول من عام 2023، أي قبل «طوفان الأقصى» في أكتوبر من نفس العام، قد بلغت 37.1 مليار دولار، لكنها انخفضت إلى حوالى 35 مليار دولار بالنصف الأول من العام التالي، واستمرت على نفس الوتيرة بالنصف الأول من العام الحالي، أي بنقص 2.1 مليار دولار عما كانت عليه بالنصف الأول من عام 2023 بنسبة تراجع 6%.

وكانت قيمة إيرادات خدمات الأعمال بالنصف الأول من عام 2023، أي قبل الحرب، 34.7 مليار دولار، لترتفع إلى 35 مليار دولار بالنصف الأول من العام التالي، ثم إلى 39.1 مليار دولار بالنصف الأول من العام الحالي. ولم يؤثر تذبذب أداء مدفوعات خدمات الأعمال على استمرار نمو الفائض الذي تحققه خدمات الأعمال، والذي زاد من 20.6 مليار دولار بالنصف الأول من عام 2023، أي قبل الحرب، إلى فائض 21.9 مليار دولار بالنصف الأول من العام التالي، ثم إلى فائض 24.1 مليار دولار بالنصف الأول من العام الحالي.

 

تفوق خدمات الأعمال على نوعيات الإيرادات

ومن الطبيعي أن يرى البعض أن هناك عوامل أخرى تساند الاقتصاد الإسرائيلي، وتقلل من مدى تأثره بالحرب الدائرة في غزة وغيرها، مثل المعونات التي تحصل عليها إسرائيل سواء من الولايات المتحدة أو من ألمانيا وغيرها، أو من تحويلات العمالة بالخارج، أو من عوائد الاستثمارات الإسرائيلية بالخارج، أو من الاستثمارات الواردة إلى إسرائيل من دول العالم. إلا أن كل تلك الموارد كانت أقل في قيمتها مما جلبته خدمات الأعمال لها.

وها هي بيانات الإيرادات بميزان المدفوعات الإسرائيلي بالنصف الأول من العام الحالي والتي بلغت 125 مليار دولار، والتي بلغت بها إيرادات خدمات الأعمال 39.1 مليار دولار ضمن مجمل إيرادات الخدمات البالغة 43.9 مليار دولار، في حين بلغت قيمة الصادرات السلعية 35 مليار دولار، وقيمة الاستثمارات الأجنبية الداخلة للكيان 23.1 مليار دولار، موزعة ما بين: 10.2 مليار دولار للاستثمارات الأجنبية المباشرة، و10.4 مليار دولار لاستثمارات الحافظة، و2.6 مليار دولار للاستثمارات الأخرى ومعظمها ودائع من الخارج بالبنوك المحلية.

إلى جانب إيرادات فوائد الاستثمارات الإسرائيلية بالخارج 12.5 مليار دولار، وقيمة المعونات 3.4 مليار دولار، وتحويلات العاملين بالخارج وغيرها من التحويلات 4.4 مليار دولار، وإيرادات الحساب الرأسمالي 2.6 مليار دولار.

الأمر الذي يدعو الحكومات العربية إلى المزيد من الاهتمام بمجالات خدمات الأعمال لديها، وخاصة أنشطة البرمجيات التي تحقق عوائد كبيرة، وتذليل المعوقات التي تواجه شركاتها الناشئة، وتقليل أوجه الجباية منها، وإتاحة المزيد من المزايا الاستثمارية لها، والتي تحقق لها إيرادات ومنافع هامة في المجالات المدنية والحربية.