في يوليو 2025، شهدت مصر واحدة من أكبر الأزمات الرقمية في تاريخها الحديث، حين اندلع حريق هائل في سنترال رمسيس، أحد أهم مراكز الاتصالات والبنية التحتية الرقمية في البلاد.
هذه الحادثة كشفت هشاشة المنظومة الرقمية المصرية، وأثارت تساؤلات واسعة حول جدوى بناء مركز سيبراني تحت الأرض شديد الحراسة ومقاوم للضربات العسكرية بتكلفة ضخمة بلغت 6 مليارات دولار، في ظل استمرار اعتماد البلاد على نقاط مركزية يمكن أن تتسبب في شلل شبه كامل للاتصالات والإنترنت بمجرد تعرضها لأي حادث.
خلفية المشروع السيبراني
في إطار جهود دولة الانقلاب لتعزيز الأمن السيبراني، أعلنت حكومة الانقلاب المصرية عن إنشاء مركز معلومات سيبراني ضخم تحت الأرض في العاصمة الإدارية الجديدة.
هذا المركز يُعد من الأكبر عالميًا من حيث تخزين البيانات واحتوائه على بنية تحتية متطورة، ويتميز بقدرته على مقاومة الهجمات العسكرية والتخريبية، مع حراسة مشددة على مدار الساعة.
- تكلفة المشروع: 6 مليارات دولار أمريكي.
- الموقع: مدينة تحت الأرض بالعاصمة الإدارية الجديدة.
- الهدف المعلن: حماية بيانات الدولة، تأمين البنية التحتية الرقمية، ضمان استمرارية الخدمات الحيوية في حال الهجمات أو الكوارث.
مشروع بحجم الجدل
المركز السيبراني الجديد، الذي لم تكشف الحكومة عن موقعه بالتحديد لأسباب "أمنية"، من المفترض أن يكون محوراً لحماية البيانات الوطنية، وإدارة الشبكات الحيوية في الدولة من أي هجمات خارجية، خاصة مع تصاعد التهديدات السيبرانية في المنطقة، إلا أن تكلفة المشروع -التي تناهز نصف ميزانية التعليم والصحة مجتمعة- أثارت تساؤلات حول أولوية هذا الاستثمار، في ظل أوضاع اقتصادية متدهورة وديون خارجية تجاوزت 165 مليار دولار بنهاية 2024.
وبحسب مصادر حكومية، فإن المشروع سيُنفذ على ثلاث مراحل خلال 5 سنوات، على أن يشمل مراكز بيانات عملاقة (Data Centers)، وشبكات بديلة للاتصال الأرضي والفضائي، ونظم قيادة وتحكم عسكرية ومدنية.
ومن المخطط أن يتم تمويل المشروع عبر قروض من شركاء أجانب وتحالفات دولية -لم يُعلن عنها بالكامل- إضافة إلى ما وصف بـ"التمويل الذاتي" من جهات سيادية.
الحريق الذي كشف المستور
في مساء الإثنين 7 يوليو 2025، اندلع حريق ضخم في الطابق السابع من سنترال رمسيس بالقاهرة، ما أدى إلى تلف كابلات رئيسية وسيرفرات حيوية.
استمر الحريق قرابة 12 ساعة، وأسفر عن وفاة 4 أشخاص وإصابة آخرين، وتسبب في تعطيل واسع النطاق لخدمات الإنترنت، الاتصالات، والدفع الإلكتروني في مناطق عديدة من القاهرة والجيزة.
تأثير الحريق بالأرقام:
- انخفاض جودة الاتصال: وصلت إلى 62% فقط من المعدلات المعتادة.
- تعطيل الخدمات: شملت الإنترنت الأرضي، الهاتف الأرضي، تطبيقات دفع إلكتروني (مثل "إنستاباي" و"فوري")، وتأثرت بعض أنظمة البنوك والرحلات الجوية وحركة القطارات.
- تاريخ سنترال رمسيس: تأسس عام 1927، ويعالج نحو 40% من حركة الاتصالات المحلية والدولية في مصر.
عقب الحريق، أكد وزير الاتصالات بحكومة الانقلاب عمرو طلعت أن الحكومة نجحت في نقل الخدمات إلى مراكز بديلة خلال دقائق، وأن سنترال رمسيس ليس النقطة الوحيدة المعتمدة في البنية التحتية الرقمية.
إلا أن الواقع أظهر أن اعتماد المنظومة على نقاط مركزية ما زال يمثل خطورة حقيقية.
من جانب آخر، أشار خبراء الأمن السيبراني إلى أن إنشاء مركز سيبراني ضخم تحت الأرض لا يحقق بالضرورة الأمان الرقمي إذا لم يتم تطوير البنية التحتية بشكل متكامل وتوزيع نقاط التحكم والبيانات جغرافيًا لتفادي الكوارث.
جدوى المركز السيبراني تحت الأرض
الدوافع الرسمية:
- تعزيز الردع السيبراني: حماية الدولة من الهجمات الرقمية المتزايدة، خاصة مع تصاعد التهديدات الإقليمية والدولية.
- تأمين البيانات الحيوية: تخزين بيانات الدولة في منشأة مقاومة للهجمات العسكرية والتخريبية.
- رفع تصنيف مصر السيبراني: حصلت مصر على 100 نقطة في مؤشر الأمن السيبراني العالمي لعام 2024، واحتلت المركز الأول إفريقيًا.
الانتقادات والتساؤلات:
- هشاشة المنظومة: رغم وجود مركز سيبراني بقيمة 6 مليارات دولار، كشفت حادثة سنترال رمسيس أن انقطاع الإنترنت والخدمات الرقمية ممكن بسبب نقطة مركزية واحدة.
- غياب الشفافية: لم يُكشف عن تفاصيل المركز السيبراني إلا يوم افتتاحه، ما أثار شكوكًا حول جدواه الفعلية وأولويات الإنفاق العام.
- تشبيه شعبي ساخر: انتشرت تعليقات ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، تشبه المشروع بطريقة "عبد العاطي كفتة"، في إشارة إلى مشاريع سابقة أُعلن عنها بضجة إعلامية دون نتائج ملموسة.
أكدت د. نيفين تشيزميجولاري (IDC): أن الإنفاق على الأمن السيبراني في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سيصل إلى 6 مليارات دولار بحلول 2026، مع تزايد الحاجة لحماية البيانات والبنية التحتية الرقمية.
وشدد خبراء مصريون على أن الاستثمار في الأمن السيبراني يجب أن يوازيه تطوير شامل للبنية التحتية وتوزيع مراكز التحكم، وليس فقط إنشاء منشآت ضخمة بتكاليف باهظة.
وفي تصريحات رسمية أشار مجلس وزراء الانقلاب إلى أن مصر تسعى لتكون رائدة في الأمن السيبراني إقليميًا، لكن الواقع أظهر أن هناك فجوة بين الخطط النظرية والتنفيذ العملي.
حادثة حريق سنترال رمسيس كشفت عن هشاشة المنظومة الرقمية المصرية، وأثارت تساؤلات جوهرية حول جدوى بناء مركز سيبراني تحت الأرض بتكلفة 6 مليارات دولار في ظل استمرار الاعتماد على نقاط مركزية هشة.
بينما تؤكد حكومة الانقلاب أن المركز الجديد يعزز أمن الدولة الرقمي، يرى خبراء أن الحل يكمن في تطوير البنية التحتية بشكل متكامل وتوزيع المخاطر، وليس فقط في بناء منشآت محصنة.
لولا الحريق، ما كان المصريون ليكتشفوا حجم الكارثة، وهو ما يعيد إلى الأذهان نمط إدارة المشروعات الكبرى في البلاد، ويطرح سؤالًا: هل نحن أمام أمن حقيقي أم مجرد استعراض رقمي؟