في خطوة تبدو أقرب إلى ردّ فعلٍ متأخر منها إلى سياسة وقائية مدروسة، أعلنت وزارة الداخلية بحكومة الانقلاب المصرية شنّ حملات موسعة على السائقين المتعاطين للمخدرات، بعد تكرار حوادث الطرق المميتة التي أودت بحياة العشرات.

وأسفرت الحملة الأخيرة، بحسب بيان الوزارة الصادر في 8 يوليو 2025، عن ضبط 48 سائقًا ثبت تعاطيهم مواد مخدرة أثناء القيادة، وسط وعود بتكثيف الرقابة المرورية.

لكن هذا الإعلان، الذي لاقى صدى إعلاميًا واسعًا، قوبل بقدر أكبر من الشكوك والتساؤلات من قبل المواطنين والحقوقيين، خاصة في ظل الانهيار المزمن الذي تعانيه منظومة المرور في مصر، والفساد المستشري داخل الأجهزة الرقابية، وغياب أي إصلاح حقيقي للبنية التشريعية أو المؤسسية للدولة.

 

حوادث الطرق.. نزيف يومي

بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، سجّلت مصر في عام 2024 أكثر من 7,100 حادث سير، أسفرت عن وفاة ما يزيد عن 2,300 شخص، وإصابة ما يقارب 9,000 آخرين.

ويعود السبب الرئيسي لهذه الحوادث إلى العنصر البشري، وتحديدًا القيادة تحت تأثير المخدرات، والتجاوزات القانونية، فضلًا عن تهالك الطرق وضعف البنية التحتية وغياب الصيانة.

في يونيو الماضي فقط، شهد طريق "العياط – الجيزة" حادثًا مأساويًا راح ضحيته 14 شخصًا، بينهم أطفال، بعد اصطدام سيارة نقل مسرعة بحافلة صغيرة. وأظهرت التحقيقات الأولية أن سائق الشاحنة كان تحت تأثير مخدر "الترامادول"، وقد حصل على رخصة القيادة عبر وسطاء.

 

فساد يخرّب الحملات

ما جدوى شن حملات أمنية في منظومة غارقة في الفساد من رأسها حتى قدميها؟ يتساءل أحد الضباط المتقاعدين، فضّل عدم ذكر اسمه، قائلًا: "أنت تضبط 50 سائقًا اليوم، وغدًا يعودون للشارع مقابل رشوة تُدفع هنا أو هناك، بعض أفراد المرور أنفسهم يتعاطون المخدرات، والبعض الآخر يبتز السائقين تحت التهديد بإلغاء الرخصة."

تقارير سابقة صادرة عن هيئة الرقابة الإدارية نفسها أشارت إلى وجود رشى متفشية في إدارات المرور، تتراوح من إصدار رخص القيادة دون اختبار، إلى التغاضي عن المخالفات مقابل مبالغ مالية، وهذا يقوّض أي محاولة إصلاح من الجذور، خاصة في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية للمحاسبة والشفافية.

 

من يقود البلاد؟!

الواقع أن انهيار منظومة المرور ليس إلا انعكاسًا مصغرًا لانهيار أكبر تشهده الدولة المصرية تحت حكم العسكر، الذين اختزلوا الحكم في أروقة الأمن والمخابرات والمشروعات الشكلية، فلا تعليم يُصلح، ولا صحة تُعالج، ولا اقتصاد يُدار بكفاءة، ولا منظومة عدالة تُطبق على الجميع.

تحت حكم قائد الانقلاب العسكري بقيادة عبد الفتاح السيسي، ومنذ انقلابه العسكري في 2013، شهدت مصر تصاعدًا غير مسبوق في معدلات الفقر، حيث يعيش أكثر من 30 % من السكان تحت خط الفقر، وفقًا لتقارير البنك الدولي.

وفي ظل هذا المناخ، يصبح تعاطي المخدرات وسيلة للهروب من الواقع، لا سيما بين سائقي الشاحنات والنقل العام الذين يعملون لساعات طويلة دون راحة أو تأمين صحي.

 

منظومة بحاجة إلى إعادة بناء

يرى الخبير في شؤون النقل المهندس علاء عبد الباقي أن "الحملات الأمنية لا تكفي وحدها"، مضيفًا: "نحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة لمنظومة المرور، تشمل تدريب الكوادر، وتطبيق رقابة رقمية صارمة عبر الكاميرات الذكية، وتحديث البنية التحتية للطرق. كما يجب فصل وزارة الداخلية عن مسؤولية المرور، وإسنادها إلى هيئة مستقلة فنية خالصة."

كما أشار تقرير صادر عن "المنتدى المصري للدراسات" إلى أن مصر لا تزال تستخدم أساليب بدائية في مراقبة الطرق، وتعتمد على العنصر البشري في كل مراحل التفتيش، وهو ما يجعل النظام عرضة للتلاعب والتواطؤ.

في نهاية المطاف، المواطن المصري هو من يدفع فاتورة الإهمال والفساد، سواءً كمُصاب في حادث طريق، أو كأب يفقد ابنه تحت عجلات شاحنة يقودها سائق مخمور، أو كراكب يغامر بحياته كل صباح في "ميكروباص" مهترئ يفتقر لأي شروط سلامة.

وحتى تتحول مثل هذه الحملات من مجرد شو إعلامي إلى إجراءات فاعلة، فإن الأمر يتطلب أكثر من مجرد ضبط 48 سائقًا.

إنه يتطلب ضبط نظام بأكمله، بدأ يترنح تحت وطأة الفشل والفساد، بعد أن تحولت الدولة إلى ما يشبه شركة يديرها جنرالات بلا رؤية ولا مساءلة.

حملة المرور الأخيرة ضد السائقين المدمنين هي، في أحسن الأحوال، محاولة لتضميد جرح غائر دون علاج حقيقي، فبدون إصلاح شامل يبدأ من مكافحة الفساد ويصل إلى تفكيك قبضة العسكر على مفاصل الدولة، ستظل الطرق المصرية مفخخة بالموت، وستظل الحملات مجرد مسكنات في جسد دولة تتآكل من الداخل.